ما الذي تعنيه  ظاهرة دونالد ترامب: تحليل ماركسي

Image: Own work

هناك شبح يخيم على أوروبا. صعدت هذه الظاهرة المروعة فجأة، كما لو بفعل سحر أسود، استحضر من أحلك بقاع الجحيم على يد شيطان خبيث، ليصيب أهل الأرض الطيبين ويعذبهم، ويقلق راحتهم ويغرقهم في أسوأ كوابيسهم.

وأسوأ ما في هذه الظاهرة هو تحديدا أن لا أحد يبدو قادرا على تفسيرها. إنها تقدم نفسها كقوة طبيعية لا تقهر، تجتاح كل شيء أمامها. وقد نجحت، في فترة زمنية قصيرة جدا، في السيطرة على أغنى وأقوى بلد على وجه الأرض.

جميع القوى المجتمعة من العظماء والأخيار، وجميع المدافعين عن "النظام الدولي القائم على القواعد"، وجميع المدافعين عن النظام والقيم الصحيحة، اتحدوا لهزيمة هذا الوحش الجائر.

صحافتنا الحرة الرائعة، التي يعلم الجميع أنها المدافع الأبرز عن الحرية وحرية التعبير، حشدت صفوفها كرجل واحد لخوض معركة شريفة دفاعا عن الديمقراطية والحرية والقانون والنظام.

لكنها جميعها فشلت.

اسم هذا الشبح هو: دونالد ترامب.

هلع

يتجلى الإفلاس الفكري المطلق للطبقة السائدة في العجز التام لمنظري رأس المال عن فهم الوضع الراهن، ناهيك عن تقديم توقع ملائم للأحداث المستقبلية.

وقد بلغ هذا التدهور الفكري أدنى مستوياته عند القادة السياسيين في أوروبا. فقد قادوا هذه القارة، التي كانت ذات يوم عظيمة، إلى مستنقع من التدهور الاقتصادي والثقافي والعسكري، وأوصلوها إلى حالة من العجز التام.

وبعد أن ضحوا طيلة عقود بكل شيء من أجل الإمبريالية الأمريكية، وعودوا أنفسهم على الدور المهين كعملاء خانعين لواشنطن، ها هم يجدون أنفسهم الآن مهملين من قبل حليفتهم السابقة، ومتروكين ليدافعوا عن أنفسهم.

وقد انكشف غباؤهم تماما بخسارة الحرب في أوكرانيا وانهيار أحلامهم السخيفة بهزيمة روسيا وتدميرها باعتبارها قوة. وها هم، بدلا من ذلك، يجدون أنفسهم الآن أمام روسيا قوية ومنتعشة، ومجهزة بجيش ضخم، ومسلحة بأحدث الأسلحة، ومحصنة بسنوات من الخبرة القتالية.

يجدون أنفسهم، في هذه المرحلة الحرجة، وقد تخلت عنهم، فجأة، القوة التي كان من المفترض أن تأتي للدفاع عنهم. وهم الآن يركضون مثل دجاج مقطوع الرأس، يطأون بعضهم بعضا في سباقهم إلى التعبير عن دعمهم الأبدي الذي لا يتزعزع لفولوديمير زيلينسكي.

إنهم غاضبون ويثرثرون ضد رجل البيت الأبيض، الذي يرونه المسؤول الوحيد عن الكارثة التي حلت بهم فجأة.

لكن كل تلك الجوقة الهستيرية ليست سوى تعبير عن الهلع، والذي بدوره ليس سوى تعبير عن الخوف: خوف خالص أعمى شديد. وخلف واجهة التحدي الزائفة، يقف هؤلاء القادة مشلولين من الرعب، كأرنب أعماه ضوء سيارة تقترب.

ما هو السبب الحقيقي؟

إذا استطعنا، ولو للحظة، أن نتجاهل ضجيج الشكاوى والاحتجاجات والإساءات، وحاولنا فهم معناها، وسط ضباب الهستيريا الإعلامية الكثيف، ستبدأ الحقيقة المبهمة بالظهور.

من البديهي لكل من يمتلك ولو نصف عقل، أن أزمة هائلة كهذه لا يمكن أن تكون من صنع فرد واحد، حتى ولو كان شخصا يمتلك قوى خارقة. هذا "تفسير" لا يفسر شيئا. وبدلا من أن ينتمي إلى علم السياسة، فهو ينتمي إلى عالم غامض أشبه بعالم الشياطين.

كتبت صحيفة الغارديان محذرة:

"في عهد ترامب، ستتغير الأجندة العالمية، سواء شئنا أم أبينا. ستتلقى المعركة ضد الانهيار المناخي ضربة موجعة، وستصبح العلاقات الدولية أكثر خضوعا للمضاربات، وقد تُطعن أوكرانيا في ظهرها خلال حربها ضد العدوان الروسي، وستجد تايوان نفسها أمام فوهات البنادق الصينية. ستتعرض الديمقراطيات الليبرالية في كل مكان، بما في ذلك بريطانيا، لحصار جديد من طرف مقلدي ترامب، مدعومين بوسائل التواصل الاجتماعي التي تشوه الحقيقة.

"لقد ارتكب الناخبون الأمريكيون هذا الأسبوع خطأ فظيعا لا يغتفر. ينبغي ألا نتردد في القول إنهم ابتعدوا عن المبادئ والقواعد المشتركة التي شكلت العالم، نحو الأفضل عموما، منذ عام 1945. لقد اعتبر الأمريكيون أن ترامب ليس "غريب الأطوار"، كما كان شائعا لفترة وجيزة، بل هو التيار السائد. خرج الناخبون يوم الثلاثاء وصوتوا بأعداد هائلة بشكل غريب. ويجب على الأمريكيين أن يتحملوا عواقب ذلك"[1].

ها نحن ذا إذن! صحيفة الغارديان، ذلك التعبير الأكثر وقاحة وإثارة للاشمئزاز عن نفاق الليبراليين، تلقي باللوم في كل شيء على الشعب الأمريكي الذي ارتكب الخطيئة التي لا تغتفر بالتصويت في انتخابات ديمقراطية حرة ونزيهة لمرشح لا يروق لها.

لكن كيف يمكن تفسير هذا الانحراف المروع؟ إنه، كما تخبرنا الغارديان بوجه جاد تماما، نتيجة "غرابة" الشعب الأمريكي المزعومة. وتعريف "الغرابة" هو بالطبع كل شيء لا يتوافق مع تحيزات هيئة تحرير صحيفة الغارديان.

ما يقصدونه حقا هو أن الناخبين الأمريكيين -أي ملايين الرجال والنساء من الطبقة العاملة- غير مؤهلين حقا لممارسة حق التصويت، لأنهم "غريبون" بطبيعتهم.

وبعبارة أكثر صراحة، فجميع الأمريكيين ميالون بطبيعتهم إلى العنصرية وكراهية الأقليات ونفور غير مفهوم من مبادئ الليبرالية البرجوازية. وهذا يجعلهم بطبيعتهم ينفرون من الديمقراطية ويميلون إلى الفاشية، التي يمثلها، بالطبع، دونالد ترامب.

لكن من أين تأتي هذه الغرابة؟ وهل كان هؤلاء الناخبون الأمريكيون أنفسهم "غريبين" أيضا عندما صوتوا لجو بايدن أو أوباما؟ من الواضح أنهم كانوا آنذاك عاقلين تماما. ما الذي تغير؟

الغريب هنا ليس سلوك الناخبين الأمريكيين، الذين كانت قراراتهم عقلانية للغاية وسهلة الفهم، بل هو التشوهات العقلية لتلك الشرذمة البائسة من البرجوازيين الصغار من المدونين الليبراليين، الذين من الواضح أن التزامهم بالديمقراطية يتوقف تماما بمجرد أن يصوت الناخبون "بطريقة خاطئة".

مفهومهم عن الديمقراطية -القائل بأنه لا يمكن دعم الانتخابات إلا إذا أسفرت عن انتخاب مرشحين يرضوننا- يبدو لي غريبا بعض الشيء. ومع ذلك، فقد تأكد هذا المفهوم بشكل لافت في إلغاء الانتخابات الأخيرة في رومانيا.

ألغت السلطات الرومانية الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية في دجنبر، لمجرد أنها لم ترض بفوز المرشح الذي لم توافق عليه، كالين جورجيسكو (Călin Georgescu)، في الجولة الأولى. ولم تكتف بذلك، بل منعت ترشحه في جولة إعادة الانتخابات الرئاسية المزمع إجراؤها في ماي.

وقد حظيت تلك الإجراءات بدعم كامل من طرف قيادة الاتحاد الأوروبي في بروكسل. ولا شك أن صحيفة الغارديان قد رحبت أيضا بإلغاء الانتخابات بكل حماس ممكن. من الواضح أن هذه هي الطريقة لمنع أمثال دونالد ترامب من الفوز بالانتخابات!

مرحى! عاشت الديمقراطية!

الفاشية وصلت!

لقد شنت وسائل الإعلام، منذ البداية، حملة صاخبة تندد بترامب باعتباره فاشيا. إليكم بعض الأمثلة المأخوذة عشوائيا من الصحافة:

Le Monde: "كانت الأسابيع الأولى لترامب باعتباره رئيسا كافية لإضفاء شعور حقيقي على كابوس تحول أمريكا إلى الفاشية".

The New Statesman: "هل تستطيع الولايات المتحدة مقاومة الفاشية؟"

The New Yorker: "ماذا يعني أن يكون دونالد ترامب فاشيا؟"

The Guardian: "الفاشية الجديدة لترامب هنا الآن. إليكم عشرة أشياء يمكنكم القيام بها لمقاومتها".

وقد تحدثت جميع شخصيات المؤسسة الرسمية بنفس الأسلوب. أصدر مارك ميلي، الجنرال المتقاعد في الجيش الأمريكي والرئيس العشرين لهيئة الأركان المشتركة، تحذيرا شديد اللهجة لأمريكا قائلا:

"إنه أخطر شخص على الإطلاق. لقد كانت لدي شكوك عندما تحدثت إليكم عن تدهور حالته العقلية وما إلى ذلك، لكنني الآن أدرك أنه فاشي تماما. إنه الآن أخطر شخص على هذا البلد".

وقد وافقت كامالا هاريس على أن ترامب فاشي، على الرغم من أن جو بايدن اكتفى بوصفه بأنه "شبه فاشي" فقط.

ومع ذلك فقد حذر مرارا من أن ترامب يمثل خطرا على الديمقراطية، وهو رأي يشاركه فيه كثيرون، مثل المدعي العام لولاية أريزونا، الذي خلص إلى أننا "على شفا ديكتاتورية".

وقد عبر أنتوني سكاراموتشي، الذي كان قد شغل لفترة وجيزة منصب السكرتير الصحفي للبيت الأبيض في عهد دونالد ترامب، عن نفسه بصراحة أكبر، قائلا ببساطة: "إنه فاشي حقير، إنه فاشي الفاشيين".

وكما هو متوقع، فقد انضمت شخصيات بارزة عديدة من اليسار إلى جوقة الإدانة الصارخة. إذ صاحت ألكسندريا أوكاسيو كورتيز (التي تقدم غالبا على أنها "اشتراكية" ديمقراطية) قائلة:

"نحن على أعتاب إدارة استبدادية. هذا ما بدأت تبدو عليه الفاشية في القرن الحادي والعشرين".

وهكذا تستمر هذه الترنيمة المملة بلا نهاية، يوما بعد يوم. والهدف واضح تماما: فالتكرار المستمر لنفس الفكرة سيقنع الناس في النهاية بأنها صحيحة. لكن هذه الجعجعة القوية تنتج الكثير من الضجيج، لكن مع القليل جدا من الطحين.

ما هي الفاشية؟

من الواضح تماما أن مصطلح الفاشية هنا ليس تعريفا علميا، بل مجرد إهانة مبتذلة، تعادل تقريبا كلمة "ابن عاهرة"، أو كلمات من هذا القبيل.

قد يكون لهذا النوع من السباب غرض مفيد، إذ يسمح للأفراد المحبطين بالتنفيس عن غضبهم وحقدهم تجاه من لا يروق لهم. فيشعرون فورا براحة نفسية ويعودون إلى ديارهم راضين مقتنعين بأنهم قد ساهموا بطريقة ما في تقدم قضية الحرية، محققين نصرا سياسيا باهرا على العدو.

لكن من المؤسف القول إن تلك الانتصارات هي عمليا لا قيمة لها على الإطلاق. إن هذا التطرف الاصطلاحي ليس سوى تعبير عن غضب عاجز. فبسبب العاجز عن توجيه أي ضربات حقيقية للعدو المكروه، يشعر المرء بالرضا لمجرد توجيه الإساءة إليه من مسافة آمنة.

أما بالنسبة لنا، نحن المهتمين بخوض معارك حقيقية ضد أعداء حقيقيين، بدلا من محاربة طواحين الهواء كدون كيشوت، فإننا نحتاج إلى أسلحة أخرى أكثر جدية. وأول ما يحتاج إليه الشيوعي الحقيقي هو امتلاك منهج علمي دقيق في التحليل.

الماركسية علم. وهي، مثلها مثل جميع العلوم، لها مصطلحات علمية. والكلمات مثل "الفاشية" و"البونابرتية" تحمل، بالنسبة لنا، معان دقيقة. إنها ليست مجرد مصطلحات للإهانة، أو أوصافا يمكن إلصاقها بسهولة بأي شخص لا يلقى استحساننا.

لنبدأ بتعريف دقيق للفاشية: الفاشية بالمعنى الماركسي، حركة معادية للثورة، حركة جماهيرية تتكون أساسا من البروليتاريا الرثة والبرجوازية الصغيرة الغاضبة. إنها تستخدم كأداة لسحق الطبقة العاملة وتفتيتها، وإقامة دولة شمولية تسلم فيها البرجوازية سلطة الدولة إلى بيروقراطية فاشية.

إن السمة الرئيسية للدولة الفاشية هي المركزية الشديدة والسلطة المطلقة للدولة، حيث تتم حماية البنوك والاحتكارات الكبرى، لكنها تخضع لسيطرة مركزية قوية من قبل بيروقراطية فاشية كبيرة وقوية.

في كتابه "ما هي الاشتراكية الوطنية؟"، يوضح تروتسكي أن: "الفاشية الألمانية، مثلها مثل الفاشية الإيطالية، صعدت إلى السلطة اعتمادا على البرجوازية الصغيرة، التي حولتها إلى أداة لسحق منظمات الطبقة العاملة والمؤسسات الديمقراطية. لكن الفاشية في السلطة ليست حكم البرجوازية الصغيرة، بل هي على العكس من ذلك، أكثر أنواع ديكتاتورية رأس المال الاحتكاري قسوة".

هذه، بشكل عام، هي السمات الرئيسية للفاشية. كيف يمكن مقارنة هذا بأيديولوجية ومحتوى ظاهرة ترامب؟ لقد مررنا بتجربة حكومة ترامب، والتي -وفقا للتحذيرات المروعة من جانب الديمقراطيين والمؤسسة الليبرالية بأكملها- كانت ستمضي قدما نحو إلغاء الديمقراطية. لكنها لم تفعل شيئا من هذا القبيل.

لم تتخذ أية خطوات كبيرة لتقييد الحق في الإضراب والتظاهر، ناهيك عن إلغاء النقابات العمالية. وأُجريت الانتخابات كالمعتاد، وأخيرا، ورغم الضجة العامة، خلف جو بايدن ترامب في الانتخابات. قل ما شئت عن حكومة ترامب الأولى، لكنها لم تكن لها أية علاقة بأي نوع من الفاشية.

في الواقع، كان بايدن والديمقراطيون هم من قاد الهجوم الرئيسي على الديمقراطية، وبذلوا جهودا استثنائية لاضطهاد دونالد ترامب، وحشدوا السلطة القضائية بأكملها لجره إلى المحاكم بتهم لا حصر لها، بهدف توجيه الاتهام إليه بأي ثمن، ووضعه في مأمن خلف القضبان، وبالتالي منعه من الترشح للرئاسة مرة أخرى.

تم حشد وسائل الإعلام بأكملها في حملة شرسة ومتواصلة من التشهير وتشويه السمعة، مما أدى في النهاية إلى خلق مناخ شهد محاولتين على الأقل لاغتياله. ولم ينج من الاغتيال الفعلي إلا بمحض الصدفة (مع أنه كان ينسبه عادة إلى حماية الرب).

يوتوبيا رجعية

الأيديولوجية الترامبية -إذا صح الحديث عن أيديولوجيا- بعيدة كل البعد عن الفاشية. فمثل دونالد ترامب العليا أبعد ما تكون عن الرغبة في إقامة دولة قوية، بل هي رأسمالية السوق الحرة، حيث لا تلعب الدولة إلا دورا ضئيلا، أو لا تلعب أي دور على الإطلاق.

يمثل برنامجه محاولة للعودة إلى سياسات روزفلت -ليس فرانكلين ديلانو روزفلت واضع الخطة الجديدة، بل ثيودور روزفلت الذي كان رئيسا قبل الحرب العالمية الأولى.

في 10 يناير، ذكرت مقالة في صحيفة لوموند أن: "هناك شعور بالتكرار. لقد فاجأ دونالد ترامب حلفاءه يوم الثلاثاء، 07 يناير، بعدم استبعاده استخدام القوة لاستعادة قناة بنما أو شراء غرينلاند. وبهذه المناورة، يحيي الرئيس المنتخب التقاليد القديمة للإمبريالية الأمريكية في مطلع القرن العشرين.

"العصر الذهبي" الذي بدأ بعد الحرب الأهلية، هو ما يحلم به ترامب: فقد اتسم بتكديس ثروات طائلة، وانتشار الفساد، وفرض رسوم جمركية مفرطة على الواردات حمت الصناعة الأمريكية، وأدت إلى عدم وجود ضريبة دخل.

"كان الهدف الإمبريالي، قبل كل شيء، هو ضمان هيمنة الولايات المتحدة على نصف الكرة الغربي. خلال تلك الفترة اشترت الولايات المتحدة ألاسكا من الروس (1867)، وغزت كوبا وبورتوريكو والفلبين -التي "تحررت" عام 1898 من الاستعمار الإسباني- وحفرت قناة بنما التي اكتملت عام 1914".

وبعبارة أخرى فإن دونالد ترامب يرغب في إعادة عقارب الساعة مائة عام إلى الوراء، إلى أمريكا خيالية كانت موجودة قبل الحرب العالمية الأولى، أمريكا ازدهرت فيها الأعمال التجارية وارتفعت الأرباح، وازدهرت فيها المشاريع الحرة التي تركتها الدولة وشأنها، وحيث شعرت أمريكا بحرية استخدام عضلاتها الشابة والقوية لفرض هيمنتها على المكسيك وبنما ونصف الكرة الغربي بأكمله، دافعة الاستعمار الإسباني المتداعي من كوبا، لتحويلها في المقابل إلى مستعمرة أمريكية.

لكن أيا كان رأي المرء في هذا النموذج ، فإنه نموذج لا علاقة له بالفاشية. وهذه النظرة المغرية للتاريخ تفتقر إلى أي أساس أو صلة حقيقية بعالم القرن الحادي والعشرين.

كان عصر تيدي روزفلت فترة لم تكن فيه الرأسمالية قد استنفدت تماما إمكاناتها كنظام اقتصادي تقدمي. وكانت الولايات المتحدة الأمريكية، تلك الدولة الصناعية الحديثة الواعدة، التي كانت قد رسخت بالفعل تفوقها على القوى الأوروبية القديمة في جوانب مهمة، قد بدأت لتوها في فرض نفسها باعتبارها قوة حاسمة في العالم.

لقد انقضى عصر كامل منذ ذلك الحين، وتواجه الولايات المتحدة الأمريكية اليوم تشكيلة مختلفة تماما من القوى، داخليا وخارجيا. إن جهود ترامب لإعادة عقارب الساعة إلى العالم كما كان في تلك الأيام البعيدة، جهود محكوم عليها بالفشل، وقد تحطمت بسبب الوضع العالمي المتغير وميزان القوى الطبقية داخل الولايات المتحدة الأمريكية. إنها، في الواقع، يوتوبيا رجعية.

سوف نعود إلى هذه النقاط لاحقا. لكن يجب علينا أن نصفي الحساب أولا مع تلك المحاولات الهستيرية والخاطئة تماما التي قام بها كل من اليسار واليمين لتفسير ظاهرة دونالد ترامب الغامضة.

منهج خاطئ

يقول تروتسكي: "إن الأهمية العملية الهائلة للتوجه النظري الصحيح تتجلى بأوضح صورها في فترة الصراع الاجتماعي الحاد، والتحولات السياسية السريعة، والتغيرات المفاجئة في الأوضاع... ففي مثل هذه الفترات تحديدا، تنشأ، بالضرورة، جميع أنواع المواقف والتركيبات الانتقالية والوسيطة، التي تخل بالأنماط المألوفة، وتتطلب اهتماما نظريا مستمرا. وباختصار فإنه إذا كان في إمكان المرء في فترة السلم و"الوضع الطبيعي" (قبل الحرب) أن يواصل العيش على عائدات بعض التجريدات الجاهزة، فإن كل حدث جديد في عصرنا يطرح بقوة أهم قانون في الديالكتيك: الحقيقة ملموسة دائما"[2].

في كثير من الأحيان، أجد أن اليساريين، عندما يواجهون ظاهرة جديدة -ظاهرة تبدو وكأنها تتحدى جميع المعايير والتعريفات القائمة- يميلون إلى البحث عن تصنيفات جامدة. وبعد أن يجدوا التصنيف المناسب، يبدأون في البحث عن حقائق تثبته.

يقولون: آه، أجل، أعرف ما هو هذا. إنه إما هذا، أو ذاك. فاشية، أو بونابارتية، أو أي شيء آخر يخطر ببالهم. هذا منهج خاطئ. إنه نقيض المادية الديالكتيكية. ولا يؤدي إلى أية نتيجة. إنه مثال على التفكير الكسول، والبحث عن حلول سهلة لحل أسئلة جديدة ومعقدة.

وبدلا من توضيح أي شيء، فإنه ببساطة يصرف الانتباه عن القضايا الحقيقية، ويقودنا إلى نقاش لا ينتهي ولا طائل منه حول أسئلة طرحت بشكل مصطنع، ولا تزيد إلا من الالتباس، بدلا من الإجابة على الأسئلة التي تحتاج إلى إجابة.

في دفاتره الفلسفية، أوضح لينين أن القانون الأساسي للديالكتيك هو الموضوعية المطلقة في النظر: "لا الأمثلة، ولا الاستطرادات، بل الشيء نفسه".

هذا هو جوهر المنهج الديالكتيكي. ونقيض الديالكتيك هو عادة لصق التصنيفات على شيء ما، وتخيل أننا بذلك قد فهمناه.

قال لي صديقي العزيز جون بيترسون مؤخرا إن دونالد ترامب "ظاهرة". وأعتقد أن هذا صحيح. لا داعي لمقارنته بأية شخصية أخرى في التاريخ. يجب أن نقبل أن دونالد ترامب يشبه فقط دونالد ترامب. وعلينا أن نتعامل معه كما هو، ونحلل ما هو في الواقع ظاهرة جديدة على أساس حقائق ملموسة، وليس مجرد عموميات.

البونابارتية؟

يقدم مقال تروتسكي "البونابرتية والفاشية" تعريفا دقيقا وموجزا ​​للبونابرتية من وجهة نظر ماركسية:

"إن الحكومة التي تعلو فوق الأمة ليست معلقة في الهواء. فالمحور الحقيقي للحكومة الحالية يمر عبر الشرطة والبيروقراطية والزمرة العسكرية. إنها ديكتاتورية عسكرية-بوليسية نواجهها، وبالكاد تخفي وجهها وراء زخارف البرلمانية. إن حكومة السيف، بصفتها قاضيا حكما على الأمة، هي جوهر البونابرتية".

إن جوهر البونابرتية، الذي قد يظهر بأشكال مختلفة، هو في النهاية واحد دائما: الديكتاتورية العسكرية.

في كتابه "ألمانيا: الطريق الوحيد"، يشرح تروتسكي كيف نشأت البونابرتية:

"بمجرد أن يصل صراع طبقتين اجتماعيتين -المالكين وغير المالكين، المستغِلين والمستغَلين- إلى أقصى درجات توتره، تتهيأ الظروف لهيمنة البيروقراطية والبوليس والعسكر. وتصبح الحكومة "مستقلة" عن المجتمع".

هذه الأسطر واضحة وضوح الشمس. لكن كيف يشبه كل هذا الوضع الحالي في الولايات المتحدة؟ إنه لا يشبهه إطلاقا. لنكن واضحين في هذا الشأن: لن تلجأ الطبقة السائدة إلى الردة الرجعية على شكل البونابرتية أو الفاشية إلا كملاذ أخير. هل هذا هو الوضع الحالي حقا؟ لا شك أن هناك توترات قوية في المجتمع الأمريكي، وهي تسبب زعزعة خطيرة لاستقرار النظام القائم.

لكن أن نتخيل أن الصراع الطبقي قد بلغ مرحلة حرجة، حيث صار حكم رأس المال مهددا بالانهيار الفوري، وأن الحل الوحيد للطبقة السائدة هو تسليم السلطة لنظام بونابرتي، هو محض خيال. لم نصل بعد إلى تلك المرحلة، أو أي شيء يشابهها.

من الممكن، بالطبع، الإشارة إلى هذا العنصر أو ذاك في الوضع الراهن الذي يمكن اعتباره عنصرا من عناصر البونابرتية. قد يكون الأمر كذلك. لكن يمكن إبداء تعليقات مماثلة حول تقريبا أي نظام ديمقراطي برجوازي معاصر.

في بريطانيا "الديمقراطية" في عهد توني بلير، انتقلت السلطة عمليا من البرلمان المنتخب إلى مجلس الوزراء، ومن مجلس الوزراء إلى زمرة صغيرة من المسؤولين غير المنتخبين والمقربين وخبراء العلاقات العامة. كانت هناك بلا شك عناصر مما يمكن تسميته نظام البونابرتية البرلمانية.

لكن ومع ذلك فإن مجرد وجود عناصر معينة من ظاهرة ما لا يعني بعد ظهورها الفعلي على ذلك النحو. يمكن للمرء بالطبع القول إن هناك عناصر من البونابرتية موجودة في الترامبية. أجل، يمكن للمرء أن يقول ذلك. لكن العناصر لا تمثل بعد ظاهرة مكتملة النمو.

وكما يُشير هيغل في كتابه "الفينومنولوجيا" فإنه:

"عندما نريد رؤية شجرة بلوط بكل ما في جذعها من قوة، وأغصانها الممتدة وكثافة أوراقها، لا نرضى أن نرى بلوطة بدلا منها".

هذا المنهج الخاطئ يؤدي إلى أخطاء لا تحصى. أولا، تحاول تطبيق تعريف خارجي على ظاهرة ما. ثم تتشبث به مهما كلف الأمر. وتحاول تبرير ذلك بشتى أنواع الأمثلة "الذكية" من التاريخ والتي تجرها من شعرها.

ثم، وكما يتبع الليل النهار، يأتي شخص آخر فيقول: كلا، كلا، هذه ليست بونابرتية. ثم يقدم أدلة "ذكية" بنفس القدر، لإثبات أن البونابرتية شيء مختلف تماما.

كلاهما صحيح وخاطئ على حد سواء. إلى أين نصل عندما ندخل في هذا النوع من الجدل الدائري؟ نكون كالكلب الذي يطارد ذيله، لا نصل إلى أي مكانٍ على الإطلاق.

وفي حين أنه من الصحيح أن استخدام التشبيهات التاريخية الدقيقة قد يقدم أحيانا بعض الايضاح، فإنه من الصحيح أيضا أن التجاور غير المدروس والآلي لظواهر مختلفة جوهريا هو وصفة أكيدة لخلق الالتباس.

وعلى سبيل المثال، أعتقد أنه من الصحيح تماما والمناسب وصف نظام بوتين في روسيا بأنه نظام بونابرتي برجوازي. هذا مثال على تشبيه مفيد. لكن في حالة ترامب، الأمر أكثر تعقيدا من ذلك.

المشكلة هي أن البونابرتية مصطلح مرن للغاية. فهو يغطي نطاقا واسعا من الأمور، بدءا من المفهوم الكلاسيكي للبونابرتية، الذي هو في الأساس حكم بحد السيف.

لكن حكومة ترامب الحالية في واشنطن، وعلى الرغم من خصوصياتها العديدة، ما تزال ديمقراطية برجوازية.

هذه الخصوصيات هي تحديدا ما يتعين علينا دراسته وشرحه. وبما أننا، بكل صراحة، لا نجد في التاريخ أي شيء يضاهيه ولو من بعيد -قديما كان أم حديثا- ويقارن به، وبما أننا لا نملك تعريفات جاهزة تناسب هذا، فليس أمامنا سوى خيار واحد: أن نبدأ بالتفكير.

أزمة الرأسمالية

قال الفيلسوف العظيم سبينوزا إن مهمة الفلسفة ليست البكاء ولا الضحك، بل الفهم. ولكي نفهم دونالد ترامب، علينا أن نتخلى عن علم التنجيم الزائف ونسطر ما هو بديهي.

بداية نقول إنه أيا كان ترامب، فهو ليس روحا شريرة، موهوبة بقوى خارقة. إنه إنسان عادي -بقدر ما يمكن اعتبار ملياردير أمريكي كذلك. ومثله مثل أي شخصية تاريخية مهمة، فإن الأسباب الحقيقية لصعوده إلى السلطة يجب أن يتم ربطها في نهاية المطاف بالسيرورات الموضوعية الجارية في المجتمع.

أي، بعبارة أخرى، يجب أن ننظر إليه على أنه مرتبط حتما بالوضع الموضوعي للعالم خلال العقود الأولى من القرن الحادي والعشرين.

كانت نقطة التحول الرئيسية في التاريخ المعاصر هي أزمة عام 2008، والتي زعزعت تماما استقرار النظام بأكمله. وجدت الرأسمالية نفسها تتأرجح على شفا الانهيار. وعندما انهار بنك ليمان براذرز، أتذكر بوضوح اللحظة التي عبر فيها المصرفيون علنا عن مخاوفهم من أنهم سيعلقون على أعمدة الإنارة في غضون بضعة أشهر.

كانت تلك المخاوف مبررة في الواقع. لقد كانت جميع الظروف الموضوعية مهيأة، في الواقع، للثورة الاشتراكية. لم يتم تجنب ذلك إلا باتخاذ إجراءات طوارئ، حيث تدخلت الدولة لإنقاذ البنوك بضخ مبالغ طائلة من الأموال العمومية.

وذلك يناقض جميع النظريات التي روج لها الاقتصاديون البرجوازيون الرسميون على مدى الثلاثين عاما الماضية. لقد اتفقوا جميعا على أن الدولة يجب ألا تلعب أي دور -أو دورا ضئيلا- في الاقتصاد. فالسوق الحرة، إذا تركت لحالها، ستحل جميع المشاكل.

لكن وفي لحظة الحقيقة اتضح خطأ تلك النظرية. لم يتم انقاذ النظام الرأسمالي إلا بتدخل الدولة. لكن ذلك خلق تناقضات جديدة في شكل ديون هائلة، ديون لا يمكن تحملها في نهاية المطاف.

يمر النظام الرأسمالي، منذ عام 2008، بأعمق أزمة في تاريخه. إنه يتأرجح باستمرار من كارثة إلى أخرى. وفي كل خطوة كانت الحكومات تلجأ إلى نفس السياسة المتهورة للتمويل بالعجز، أي طباعة النقود للخروج من المأزق.

افترض منظرو رأس المال قصيرو النظر، وقبيلة الاقتصاديين البرجوازيين البائسين، وحتى سياسيو المؤسسة السياسية الأكثر إفلاسا، أن هذا الوضع -إمدادات لا حصر لها من المال تسحب من العدم، وتدفق لا ينضب من الائتمان الرخيص، ومعدلات تضخم منخفضة، وأسعار فائدة منخفضة- سيستمر إلى الأبد. لكنهم كانوا مخطئين.

لم يكن كل ذلك يؤدي سوى إلى تراكم التناقضات فوق التناقضات، ممهدا الطريق لأم الأزمات في المستقبل.

كنت قد توقعت آنذاك أن جميع محاولات البرجوازية لاستعادة التوازن الاقتصادي لن تؤدي إلا إلى تدمير التوازنات الاجتماعية والسياسية. وهذا ما حدث بالضبط.

كانت الظروف الموضوعية للثورة الاشتراكية حاضرة بوضوح. لماذا لم تحدث؟ فقط لأن عاملا مهما كان غائبا عن هذه المعادلة. وهذا العامل هو القيادة الثورية.

طيلة فترة كاملة، تأرجح البندول بحدة نحو اليسار، في مختلف البلدان الواحد منها تلو الآخر. وقد انعكس ذلك في صعود سلسلة كاملة من الحركات اليسارية ذات الطابع الراديكالي: بوديموس في إسبانيا، سيريزا في اليونان، بيرني ساندرز في الولايات المتحدة، وقبل كل شيء، كوربين في بريطانيا. لكن ذلك لم يفضِ إلا إلى كشف حدود الإصلاحية اليسارية.

فلنأخذ حالة تسيبراس: كانت الأمة اليونانية بأكملها تدعمه في تحدي محاولات بروكسل لفرض التقشف. لكنه استسلم. وكانت النتيجة انعطافا نحو اليمين.

وكانت هناك قصة مماثلة في إسبانيا. فقد قدمت بوديموس في البداية صورة يسارية راديكالية للغاية. لكن القادة قرروا أن يكونوا "مسؤولين" ودخلوا في ائتلاف مع الاشتراكيين، وحدث ما كان متوقعا.

أما في الولايات المتحدة، فقد خرج بيرني ساندرز بسرعة من العدم ليخلق حركة جماهيرية كانت تبحث بوضوح عن بديل اشتراكي. كانت لديه كل الفرص لخلق بديل يساري فعال في مواجهة الديمقراطيين والجمهوريين. لكنه في النهاية رضخ لمؤسسة الحزب الديمقراطي، وضاعت الفرصة.

وأوضح مثال على ذلك كان في بريطانيا، حيث، مثل ساندرز، ظهر جيريمي كوربين من العدم، ودُفع إلى قيادة حزب العمال على رأس حركة يسارية قوية. لم يكن كوربين نفسه هو من أسس تلك الحركة، لكنه كان بمثابة نقطة مرجعية لمشاعر الغضب والسخط المتراكمة في المجتمع.

أذهلت النتيجة الطبقة السائدة وأرعبتها. كانوا يقولون علنا إنهم فقدوا السيطرة على حزب العمال. وكان ذلك صحيحا. أو بالأحرى، كان ينبغي أن يكون صحيحا.

لكن وفي لحظة الحقيقة، فشل كوربين في اتخاذ الإجراءات ضد القيادة البرلمانية اليمينية لحزب العمال، التي نظمت، بدعم من وسائل الإعلام البرجوازية، حملة شرسة ضده.

وفي الأخير استسلم كوربين لليمين ودفع ثمن جبنه، الذي هو في الواقع تعبير عن الضعف العضوي الملازم للإصلاحية اليسارية عموما.

ترامب وكوربين

نرى هنا تناقضا صارخا مع دونالد ترامب، الذي تعرض هو الآخر لهجوم شديد من جانب المؤسسة الحاكمة، ومن جانب قيادة الحزب الجمهوري نفسه. لقد فعل ما كان ينبغي على كوربين فعله: لقد حشد قاعدته الانتخابية وحولها ضد القيادة القديمة للحزب الجمهوري، التي اضطرت للتراجع.

هذا، بالطبع، لا يغير من حقيقة أن ترامب سياسي برجوازي رجعي. لكن لا بد من الاعتراف بأنه أظهر شجاعة وعزيمةً افتقر إليهما كوربين بوضوح.

كما أنه أبدى ازدراء تاما لما يسمى بالصوابية السياسية وسياسات الهوية، والتي، للأسف، تبناها الإصلاحيون اليساريون بشكل كامل، وهو ما لعب دورا ضارا للغاية في قضية كوربين.

عندما هاجم اليمين كوربين بتهمة معاداة السامية (وهي تهمة باطلة تماما)، تراجع على الفور. وأصبح فريسة سهلة للوبي الصهيوني الرجعي والطبقة السائدة البريطانية بأكملها، وسرعان ما خضع خضوعا مذلا، وصار ضحية عاجزة لإدمان سياسات الهوية الرجعية.

لو أنه فعل ما فعله ترامب، لكان قد تصدى لتهمة معاداة السامية وجها لوجه، وحشد قاعدته، وأطلقها على المؤسسة اليمينية لحزب العمال، منفذا لحملة تطهير شاملة ضد تلك العناصر الفاسدة.

لو أنه فعل ذلك، لما كان هناك شك في انتصاره. لكنه لم يفعل. وقد سمح ذلك للجناح اليميني في حزب العمال بالانتقال إلى الهجوم، وطرد اليسار -بمن في ذلك كوربين نفسه- وتطهير الحزب من أعلى إلى أسفل. كانت النتيجة فوز ستارمر، وانتهت تجربة الكوربينية بكارثة.

تكررت التجربة نفسها مرارا. وفي كل مرة، لعب قادة اليسار دورا مؤسفا للغاية. لقد خيبوا آمال قاعدتهم وسلموا السلطة إلى اليمين على طبق من ذهب.

هذه الحقيقة -وهذه الحقيقة وحدها- هي ما يفسر هذا التأرجح الحالي للبندول نحو اليمين. كان ذلك حتميا تماما، بالنظر إلى الاستسلام الجبان من جانب اليسار.

دعوا الآخرين يندبون الحقائق ويتذمرون من صعود ترامب وغيره من الديماغوجيين اليمينيين. أما نحن فنجيب بازدراء: لا تشتكوا من ذلك. إن المسؤولية تقع عليكم أنتم بشكل كامل. لقد نلتم ما تستحقونه بصراحة. والآن علينا جميعا أن ندفع ثمن العواقب.

ما الذي يمثله ترامب حقا؟

فلنبدأ بما هو واضح: جميعنا متفقون على أن دونالد ترامب سياسي برجوازي رجعي. هذه حقيقة لا تحتاج إلى تكرارها، كما أننا لسنا مضطرين إلى أن نكرر أن الشيوعيين لا يدعمونه بأي شكل من الأشكال.

لكن باكتفائنا بذكر هذه البديهيات لا نتقدم خطوةً واحدة في تحليل ظاهرة ترامب والترامبية. إذ على سبيل المثال، هل يصح القول إنه لا يوجد فرق بين دونالد ترامب وجوزيف بايدن؟

فكونهما سياسيان برجوازيان يدافعان في الجوهر عن المصالح الطبقية نفسها مسألة بديهية. وبهذا المعنى، يمكن القول إنهما متشابهان تماما. ومع ذلك، يجب أن يكون واضحا حتى لأعمى البصيرة أن هناك، في الواقع، اختلافاتٍ جسيمة للغاية بينهما، بل هاويةً سحيقة.

إذ في الواقع كون الرجلين، في نهاية المطاف، سياسيين برجوازيين ويمثلان، في نهاية المطاف، المصالح الطبقية نفسها، لا ينفي إطلاقا إمكانية ظهور اختلافاتٍ حادة بين مختلف فئات الطبقة نفسها. بل، في الواقع، كان هذا النوع من الصراع دائما موجودا.

تكمن المشكلة المركزية للبرجوازية في أن النموذج الذي ضمن نجاح الرأسمالية لعقود طويلة قد تحطم بشكل لا رجعة فيه.

ظاهرة العولمة، التي سمحت لهم بتجاوز حدود السوق الوطنية لفترة طويلة، قد بلغت الآن حدودها. وبدلا من ذلك، صرنا نشهد صعود القومية الاقتصادية. فكل طبقة رأسمالية تقدم مصالحها الوطنية على مصالح الأمم الأخرى. ويفسح عصر التجارة الحرة المجال لعصر الرسوم الجمركية والحروب التجارية.

يتحسر هؤلاء اليائسون الذين يحنون إلى الماضي على زوال النظام القديم. لكن دونالد ترامب يحتضنه بحماس يشبه حماس متعصب ديني. ونتيجة لذلك فقد قلب النظام العالمي رأسا على عقب، مما أثار غضب وإحباط الأمم الأضعف.

ولذلك فإن دونالد ترامب يتلقى لعنات "حلفائه" السابقين في أوروبا، الذين يحمِلونه مسؤولية كل مصائبهم. لكنه لم يخترع هذا الوضع، بل هو فقط أكثر دعاته تطرفا وثباتا.

إفلاس الليبرالية

لسنوات طويلة، دأبت الطبقة السائدة وممثلوها السياسيون في الغرب على الترويج بشكل منهجي لصورة تقدمية زائفة عن نفسها لإخفاء حقيقة السيطرة الطبقية. وقد استخدموا بمهارة ما يسمى بسياسات الهوية كسلاح للثورة المضادة.

و"اليساريون"، الذين يفتقرون إلى أي أساس أيديولوجي متين خاص بهم، ابتلعوا هذا الهراء بكل ما في الكلمة من معنى. ولم يسهم ذلك إلا في تشويه سمعتهم في أعين الطبقة العاملة، التي تنظر باستغراب إلى تصرفاتهم الغريبة، وافتتانهم بالكلمات، وترديدهم الدائم لعبارات ما يسمى بالصوابية السياسية، بدلا من النضال من أجل المصالح الحقيقية للعمال والنساء وبقية الفئات المضطهدة في المجتمع.

لذلك عندما يقف دونالد ترامب ويندد بسياسات الهوية والصوابية السياسية، فليس من المستغرب أن يجد صدى بين ملايين الرجال والنساء العاديين الذين لم تتعرض عقولهم للتلوث بسبب مرض ما بعد الحداثة.

هل يدافع الليبراليون عن الديمقراطية؟

لليبراليين نظرة غريبة جدا عن الديمقراطية. إنهم، كما رأينا، يدعمون الانتخابات، لكن فقط إذا فاز المرشح الذي يفضلونه. أما إذا لم تكن النتيجة على هواهم، فإنهم يبدأون فورا بالصراخ بأنها غير سليمة، ملمحين إلى تزوير الأصوات وجميع أنواع الممارسات المشبوهة، وذلك، عادة، دون تقديم أي دليل يذكر.

شهدنا هذا بعد فوز ترامب على هيلاري كلينتون في الانتخابات الرئاسية لعام 2016. أصبح ترامب آنذاك أول رئيس في تاريخ أمريكا دون منصب عام سابق أو خلفية عسكرية.

كان ترامب، في الواقع، دخيلا، شخصا غير مرتبط بالمؤسسة القائمة في واشنطن، التي احتكرت السلطة السياسية طيلة عقود.

لقد اعتبروه تهديدا لاحتكارهم، فتصرفوا بناء على ذلك لتقويض الديمقراطية وقلب نتائج الانتخابات. فأطلق الديمقراطيون فضيحة "روسيا غيت" (‘Russiagate’) سيئة السمعة ضد ترامب، بنية واضحة لإبعاده من منصبه.

كان ذلك بمثابة انقلاب ديمقراطي. هل كان انتهاكا للديمقراطية؟ بالطبع، لكن إذا كان من الضروري أحيانا انتهاك قواعد الديمقراطية من أجل الدفاع عنها، فليكن!

ولاحقا بذلوا جهودا استثنائية لمنعه من تولي الرئاسة مجددا. لقد أطلقوا ضده موجة تسونامي من القضايا القانونية، بهدف وضعه خلف القضبان.

كانت هناك أربع قضايا قضائية موجهة ضد ترامب شخصيا، بدءا من قضية ستورمي دانيلز الشهيرة، ثم اتهامه بالتدخل في الانتخابات في جورجيا، وأخيرا مسألة وجود وثائق سرية في منتجع مار إي لاغو.

وبالإضافة إلى ذلك، كانت هناك أكثر من 100 دعوى قضائية ضد إدارة ترامب.

تم حشد وسائل الإعلام للاستفادة القصوى من ذلك الهجوم. لكنه فشل تماما. لم تسهم كل تلك الحالات إلا في تعزيز قاعدة دعمه في استطلاعات الرأي. وظهرت النتيجة النهائية في الانتخابات الرئاسية في 05 نوفمبر 2024.

مع ثاني أعلى نسبة إقبال على التصويت منذ عام 1900 (بعد عام 2020)، فاز ترامب بـ 77.284.118 صوتا، أي ما يعادل 49.8% من الأصوات، وهو ثاني أعلى إجمالي تصويت في تاريخ الولايات المتحدة (بعد فوز بايدن في عام 2020). وقد فاز ترامب بجميع الولايات السبع المتأرجحة.

لم يكن ذلك مجرد فوز انتخابي؛ بل كان انتصارا حاسما. كما كان رفضا تاما للمؤسسة الديمقراطية الليبرالية.

وكان أيضا بمثابة رد فعل صادم ضد وسائل الإعلام العاهرة التي دعمت بأغلبية ساحقة هاريس. فمن بين الصحف اليومية، أيدت 54 صحيفة هاريس، بينما أيدت ترامب ستة صحف فقط. ومن بين جميع الصحف الأسبوعية، أيدت 121 صحيفة هاريس، بينما أيدت ترامب 11 صحيفة فقط.

كيف يمكن تفسير ذلك؟

ترامب والطبقة العاملة

من اللافت للنظر ملاحظة الاختلاف في التركيبة الطبقية للأصوات المدلى بها. ففي حين فازت هاريس بأغلبية الناخبين الذين يكسبون 100 ألف دولار أو أكثر، فاز ترامب بأغلبية الناخبين الذين يكسبون أقل من 50 ألف دولار. وبالتالي فإنه ليس هناك من شك على الإطلاق في أن ملايين العمال الأمريكيين قد صوتوا لصالح دونالد ترامب.

لا يوجد على الإطلاق أي شيء مفاجئ أو "غريب" في هذا. إن جاذبية ترامب للطبقة العاملة لها أساس مادي. وفقا لمكتب إحصاءات العمل، ظلت الأجور الحقيقية للأمريكيين من الطبقة العاملة، منذ أوائل الثمانينيات، كما هي أو انخفضت، لا سيما مع نقل الوظائف إلى بلدان أخرى. وبالمثل، فقد أفاد معهد السياسة الاقتصادية أن أجور الأسر ذات الدخل المنخفض والمتوسط ​​لم تشهد سوى نمو ضئيل، أو منعدم، منذ أواخر السبعينيات، بينما استمرت تكلفة المعيشة في الارتفاع.

توجد في العديد من المدن الأمريكية ظروف بؤس وقذارة تشبه تلك الموجودة في أفقر مدن أمريكا اللاتينية أو إفريقيا أو آسيا. ويتواجد هذا الفقر جنبا إلى جنب مع أكبر تركيز فاحش للثروة في أيدي قلة لم نشهده منذ مائة عام.

ومع ذلك فإن كل هذا يغيب على ما يبدو عن أعين "التقدميين" من الطبقة المتوسطة. لقد ركزت المؤسسة السياسية ونخبة الصحفيين والمعلقين ذوي الأجور المرتفعة بشدة على السم الخبيث لسياسات الهوية لدرجة أنهم تجاهلوا باستمرار المشاكل الحقيقية التي يواجهها أبناء الطبقة العاملة، سواء كانوا من السود أو البيض، ذكورا أو إناثا، مغايري الجنس أو مثليين.

ومن الأمثلة النموذجية على ذلك إصرار هؤلاء الحمقى المتعصبين سياسيا على الترويج لمصطلحات مثل "لاتينكس" (‘Latinx’) لتعزيز "الشمولية الجندرية". ومع ذلك، فإنه وفقا لمركز بيو للأبحاث، 04% فقط من ذوي الأصول الإسبانية هم من يستخدمون هذا المصطلح، ويقول 75% إنه لا ينبغي استخدامه أبدا.

وهكذا، فقد فتح الطريق أمام الديماغوجيين اليمينيين، مثل دونالد ترامب، للتعبير عن الغضب المتراكم عند ملايين الناس الذين شعروا بإحساس مبرر بالتجاهل من قبل المؤسسة الليبرالية في واشنطن.

نتيجة لذلك، وسع ترامب قاعدته في عام 2024، من خلال التواصل مع مجتمعات الطبقة العاملة من السود واللاتينيين.

هذه هي النتيجة المباشرة لخيانة "اليساريين"، من أمثال ساندرز، الذين، بفشلهم في تقديم أي بديل واضح عن الليبراليين، فتحوا الباب على مصراعيه أمام الديماغوجيين اليمينيين أمثال ترامب.

ومن الحقائق الثابتة أنه حتى وقت قريب، كان نادرا ما يظهر مصطلح "الطبقة العاملة" في الدعاية الانتخابية للأحزاب الرئيسية. كان حتى أكثر اليساريين جرأة عادة ما يتحدثون، بدلا من ذلك، عن "الطبقة الوسطى". كان على الطبقة العاملة الأمريكية أن تختفي، لأسباب عملية، من الوجود!

قد يكون هناك ربما استثناء ما للقاعدة، لكن ليس من المبالغة القول إن دونالد ترامب -الملياردير والديماغوجي اليميني- هو الوحيد الذي ادعى في خطاباته مناصرته لمصالح الطبقة العاملة. ويمكن القول إنه كان وحده المسؤول عن إعادة وضع العمال في قلب السياسة الأمريكية.

لا داعي لأن يقال لنا بأن ذلك مجرد ديماغوجية، وكلام فارغ لا أساس له. ولا نحتاج لمن يخبرنا بأن ترامب يقول تلك الأشياء لخدمة أغراضه الخاصة، والتي ترتبط حتما بمصالح الطبقة التي ينتمي إليها.

هذا واضح تماما لنا، لكنه خارج الموضوع تماما. الحقيقة الواضحة هي أن هذا لم يكن واضحا تماما لملايين الطبقة العاملة الذين صوتوا لترامب في الانتخابات الرئاسية. فإذا تجاهلنا هذه الحقيقة نكون مخطئين.

ما هي المصالح التي يدافع عنها ترامب؟

لا ينبغي أن يكون من الصعب على الإطلاق شرح موقفنا من ترامب لأي شخص عاقل. الأمر في الواقع بسيط للغاية. نحن نقول:

هذا الملياردير يدافع عن مصالح طبقته. وأي شيء يقوله سيكون في النهاية لمصلحته الخاصة ومصلحة الأغنياء، أصحاب الأبناك والرأسماليين. ومن الأكيد والبديهي أن تلك المصالح لا يمكن أن تكون أبدا مصالح الطبقة العاملة.

ومع ذلك فإنه لكي يكسب دعم العمال، سيقول أحيانا أشياء تبدو لهم ذات معنى. وعندما يتحدث عن الوظائف، والتشغيل، وانخفاض الأجور، وارتفاع الأسعار، فإنه يلقى تجاوبا بطبيعة الحال.

وقد يكون بعض ما يقوله صحيحا. في الواقع لقد اعترف ذات مرة بأنه استقى عدة أفكار من خطابات ساندرز واستخدمها لجذب العمال.

لا شك في أن ترامب سياسي برجوازي رجعي، لكن هذا لا يعني أنه مطابق تماما لأي سياسي برجوازي رجعي آخر. بل على العكس، لديه تفسيره الخاص للأمور، ورؤيته، وسياسته، واستراتيجيته الخاصة، والتي تختلف اختلافا جوهريا عن مواقف جو بايدن وزمرته، على سبيل المثال.

قد تبدو آراؤه متوافقة، على الأقل إلى حد ما، مع آرائنا في بعض النواحي. على سبيل المثال، في موقفه من الحرب في أوكرانيا، أو حله للوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID)، أو رفضه لما يسمى بـ"woke"[3]. وقد سبق لتروتسكي أن أوضح امكانية وجود بعض التطابقات بين ما يقوله السياسيون البرجوازيون وبين ما نعتقده نحن.

في ماي 1938 كتب مقالا بعنوان "تعلموا التفكير، اقتراح ودي لبعض اليسراويين المتطرفين". نقرأ فيه ما يلي:

"في تسعين حالة من أصل مائة، يضع العمال علامة ناقص حيث تضع البرجوازية علامة زائد. أما في عشر حالات، فيضطرون إلى وضع نفس العلامة التي تضعها البرجوازية، ولكن بختمهم الخاص، الذي يعبر عن عدم ثقتهم بالبرجوازية. إن سياسة البروليتاريا لا تستمد تلقائيا من سياسة البرجوازية، بحيث تحمل العلامة المعاكسة فقط، لو كان ذلك صحيحا لكان من شأنه أن يجعل كل عصبوي منظرا استراتيجيا بارعا؛ كلا، بل يجب على الحزب الثوري أن يوجه نفسه في كل مرة بشكل مستقل، سواء في الوضع الداخلي أو الخارجي على حد سواء، متخذا القرارات التي تتوافق على أفضل وجه مع مصالح البروليتاريا. وتنطبق هذه القاعدة على فترة الحرب كما تنطبق على فترة السلم".

حتى عندما يقول ترامب كلاما صحيحا، فإنه يفعل ذلك دائما من منظور مصالحه الطبقية ولأغراض رجعية لا تجمعنا بها أية صلة.

والخلاصة هي أننا في كل الأحوال نؤكد على موقفنا الطبقي. ولذلك فإنه من غير المقبول بتاتا أن نماهي أنفسنا بسياسات ترامب. فهذا خطأ فادح.

ولكن سيكون خطأً أخطر بكثير -بل جريمة- أن نقف ولو للحظة مع من يسمون بالعناصر البرجوازية "الليبرالية" و"الديمقراطية"، والتي هجماتها على ترامب موجهة بالكامل من وجهة نظر المؤسسة البرجوازية الرجعية التي يحاربها ترامب في الوقت الحالي.

أهون الشرين؟

بمجرد أن تقدم التنازلات لاتهامات مثل الفاشية والبونابرتية والتهديد المزعوم للديمقراطية، فإنك تبدأ في الانزلاق إلى منحدر زلق قد يقودك -حتى دون وعي- إلى موقف أهون الشرين. وهذا بلا شك هو الخطر الأكبر.

هل يصح القول إن نظام بايدن كان تقدميا مقارنة بنظام ترامب؟ هكذا روجوا له. وقد قبل ما يسمى باليسار تلك الدعاية كما لو أنها صحيحة.

يحاولون الادعاء بأن ترامب عدو للديمقراطية. لكن إذا دقق المرء في السلوك الهمجي لزمرة بايدن، فسيرى كيف أنها أظهرت ازدراء تاما للديمقراطية حتى الرمق الأخير.

فكروا في دعم بايدن "الحديدي" للهجوم الإسرائيلي على غزة، والذي أكسبه لقب "جو الإبادة الجماعية". أو القمع الشديد الذي قامت به إدارته "الديمقراطية" للحق في التجمع، حيث تعرض مئات الطلاب للضرب المبرح واعتقل 3200 في جميع أنحاء البلاد، لاحتجاجهم السلمي تضامنا مع فلسطين.

لقد تعهد بايدن بأن يكون "الرئيس الأكثر تأييدا للنقابات في تاريخ أمريكا"، ومع ذلك فقد سحق حق عمال السكك الحديدية في الإضراب. وتعهد بإنهاء عمليات الترحيل التي تمت في عهد ترامب، لكنه في النهاية طرد مهاجرين غير شرعيين أكثر من سلفه. والقائمة تطول.

وقد تشبث بايدن، حتى النهاية، بمنصبه، بعد فترة طويلة من انفضاح عدم أهليته للمنصب حتى من قبل حزبه، الذي عزله من منصب المرشح الرئاسي للديمقراطيين.

وحتى بعد أن صوتت الأغلبية الساحقة من الناخبين ضد الديمقراطيين، فقد استمر في ممارسة صلاحياته كرئيس، مرتكبا أعمال تخريب صارخة ضد المرشح المنتخب ديمقراطيا، ترامب، بل وجر الولايات المتحدة إلى شفا حرب مع روسيا.

من الصعب تخيل استهتار أكثر وقاحة بالديمقراطية وبآراء الأغلبية الساحقة من الشعب الأمريكي من ذلك.

ومع ذلك فقد استمر ذلك المجرم وزمرته في التظاهر بأنهم مدافعون عن الديمقراطية ضد خطر الديكتاتورية المزعوم!

العديد من الأشياء الأخرى التي فعلها بايدن وعصابته كانت أكثر رجعية وكارثية ووحشية من أي شيء حلم به ترامب على الإطلاق. هذه هي حقيقة الأمر. ومع ذلك نجد أناسا من اليسار مستعدين للقول إنه من الأفضل دعم الديمقراطيين ضد ترامب، "من أجل الدفاع عن الديمقراطية".

ليس من شأننا أن نربط أنفسنا بسفينة تغرق، بل علينا، على العكس من ذلك، أن نبذل كل ما في وسعنا للمساعدة في إغراقها. ليست سياستنا هي زرع الأوهام بخصوص الليبراليين وما يسمى بديمقراطيتهم، بل سياستنا هي فضحها على أنها خداع كلبي وزيف.

في مقاله "فرنسا إلى أين"، يوضح تروتسكي أن ما يسمى بسياسة "أهون الشرين" ليست سوى جريمة وخيانة للطبقة العاملة، حيث يقول:

"يجب على حزب الطبقة العاملة ألا ينشغل بجهد يائس لإنقاذ حزب المفلسين. بل يجب عليه، على العكس، أن يسرع بكل قوته سيرورة تحرير الجماهير من النفوذ الراديكالي"[4].

هذه نصيحة ممتازة لنا اليوم. ففي خضم نضالنا ضد الردة الرجعية الترامبية، لا يمكننا، تحت أي ظرف من الظروف، أن نربط أنفسنا، بأي شكل من الأشكال، بالديمقراطيين "الليبراليين" المفلسين.

فلنبحث عن طريقٍ إلى العمال!

إن الفترات الانتقالية، مثل الفترة التي نعيشها الآن، تثير حتما الارتباك. سنواجه باستمرار ظواهر جديدة ومعقدة لا سابقة لها في التاريخ.

ولكي لا نفقد توازننا، من الضروري دائماً التمسك بالثوابت، وعدم الانجراف وراء هذا التطور العرضي أو ذاك. إن السمة الرئيسية للوضع الراهن هي أن الوضع الموضوعي، يتوق إلى حل ثوري.

إن الإمكانات موجودة. لكنه لا توجد حاليا قوة قادرة بما يكفي على استغلالها. ولذلك فإنها تبقى، في الوقت الراهن، مجرد إمكانات محضة.

تسعى الجماهير جاهدة لإيجاد مخرج من الأزمة. وتضع قادة الأحزاب، واحدا تلو الآخر، على محك الاختبار، لكنها سرعان ما تكتشف عيوب جميع المنظمات القائمة. وهذا ما يفسر الاضطراب السياسي العام الذي يتجلى في تقلبات حادة على الساحة الانتخابية من اليسار إلى اليمين، ثم من اليمين إلى اليسار.

غياب أي قيادة من جانب اليسار، يفتح الطريق أمام جميع أنواع الانحرافات والديماغوجيين من أمثال ترامب.

يمكنهم أن يبرزوا بسرعة، ويقدموا تعبيرا عن غضب الجماهير واستيائها. لكن الاحتكاك بالواقع يفضي في النهاية إلى خيبة الأمل، مما يمهد الطريق لمزيد من التأرجح في الاتجاه المعاكس.

إن النظر إلى هذه التطورات من منظور سلبي بحت يؤدي إلى سوء فهم تام للوضع. الجماهير يائسة وتحتاج إلى حلول عاجلة لمشاكلها. والأشخاص مثل دونالد ترامب يبدون وكأنهم يقدمون لها ما تبحث عنه.

علينا أن نفهم هذا، لا أن نرفض تلك الحركات باعتبارها انحرافات "يمينية متطرفة" (وهي عبارة لا معنى لها على أي حال). سوف تتضمن تلك الحركات، بالطبع، عناصر رجعية. لكن طابعها الجماهيري يشير إلى أن لها قاعدة متناقضة في المجتمع.

من أجل إيجاد الطريق إلى العمال في أي بلد، من الضروري أن نأخذهم كما هم في الواقع، لا كما نريدهم أن يكونوا. وللدخول في حوار مع العمال، يجب أن ننطلق من مستوى وعيهم الحالي. وأي نهج آخر هو مجرد وصفة للعقم والعجز.

إذا أردنا أن ندخل في حوار هادف مع عامل لديه أوهام حول ترامب، فلا يمكننا البدء بإدانات حادة أو اتهامات بالفاشية وما شابه. وبعد الاستماع بصبر إلى حجج هؤلاء العمال، يمكننا أن نستند إلى العديد من النقاط التي نتفق معهم حولها، ثم، باستخدام حجج ماهرة، نطرح تدريجيا شكوكا حول ما إذا كان بإمكان رجل أعمال ملياردير ثري الدفاع حقا عن مصالح الطبقة العاملة.

بالطبع، لن تنجح حججنا بالضرورة في هذه المرحلة. فالطبقة العاملة عموما لا تتعلم من النقاشات، بل من خلال تجربتها الخاصة فقط. وستثبت تجربة حكومة ترامب أنها تجربة تعلم مؤلم للغاية.

لذلك عندما نتحدث إلى العمال الذين يدعمون ترامب، يجب علينا أن نتحلى بنهج ودي ونتفق مع ما نتفق عليه، ثم نشير بمهارة إلى حدود الترامبية وندافع عن قضية الاشتراكية. ستطفو التناقضات على السطح في نهاية المطاف. إلا أنه وعلى الرغم من ذلك، فإن الأوهام حول ترامب ستستمر لفترة من الزمن.

لن يتم تحقيق أي شيء بتبني موقف صدامي وعدائي تجاه العديد من العمال الشرفاء الذين التفوا، لأسباب مفهومة تماما، حول لواء ترامب. إن هذا النهج عقيم وغير مجد، ولن يفضي إلى أي شيء.

يقدم لنا التاريخ أمثلة كثيرة على كيف يمكن للعمال الذين يدخلون الساحة السياسية لأول مرة بآراء متخلفة للغاية، بل ورجعية، أن يتحركوا بسرعة في الاتجاه المعاكس تحت وطأة الأحداث.

في بداية ثورة 1905 في روسيا، كان الماركسيون أقلية صغيرة ومعزولة للغاية. وكانت غالبية العمال الروس متخلفة سياسيا، تحمل الكثير من الأوهام حول المَلكية والكنيسة.

سارت الغالبية العظمى من عمال سان بيترسبورغ في البداية تحت قيادة الأب غابون، الذي كان يتعاون بنشاط مع الشرطة. وعندما كان الماركسيون يقتربون منهم حاملين منشورات تدين القيصر، كان العمال يمزقونها، بل وأحيانا كانوا يضربون الثوريين.

لكن كل ذلك تغير إلى نقيضه بعد أحداث الأحد الدامي في 09 يناير. فنفس هؤلاء العمال الذين مزقوا المنشورات، بدأوا يتوجهون إلى الثوار مطالبين بالسلاح لإسقاط القيصر.

وفي الولايات المتحدة، يمكننا الاستشهاد بمثال مشابه، وهو مثال ذو دلالة واضحة وإن كان أقل دراماتيكية. عندما دخل عامل شاب، يدعى فاريل دوبس، معترك السياسة في أوائل ثلاثينيات القرن الماضي، بدأ حياته جمهوريا مخلصا.

لكن ومن خلال تجربة الصراع الطبقي العاصف، انتقل مباشرة من النزعة الجمهورية اليمينية إلى التروتسكية الثورية، ولعب دورا قياديا في انتفاضة سائقي الشاحنات في مينيابوليس.

سنرى أمثلة كثيرة كهذه في المستقبل في فترة الصراع الطبقي العاصفة التي ستبدأ في الولايات المتحدة. ويمكن كسب بعض العمال الذين يدعمون بحماسٍ ترامب، أو أمثاله من الديماغوجيين، إلى لواء الثورة الاشتراكية بناء على تجارب الأحداث المستقبلية.

ظاهريا، تبدو حركة ترامب قوية جدا وعصية على التدمير عمليا. لكن هذا وهم بصري. إنها، في الواقع، حركة غير متجانسةٍ على الاطلاق، مليئة بتناقضاتٍ عميقة. وعاجلا أم آجلا، سوف تنفجر تلك التناقضات.

يأمل أعداء ترامب الليبراليون أن يؤدي فشل سياساته الاقتصادية إلى خيبة أملٍ واسعة النطاق وفقدانٍه للدعم. هذا الفشل متوقع تماما. وقد بدأ فرضه للرسوم الجمركية يقابل بالفعل بردود فعلٍ انتقاميةٍ حتمية. وهو الشيء الذي سينعكس، في نهاية المطاف، على شكل فقدان لمناصب الشغل وإغلاق للمصانع في القطاعات المتضررة.

ومع ذلك فإن التنبؤات بزوال وشيك لحركة ترامب، هي تنبؤات سابقة لأوانها. لقد أثار ترامب توقعات وآمالا هائلة لدى ملايين الناس الذين كانوا بلا أمل من قبل. وتلك الأوهام متجذرة وقوية بما يكفي لتحمل سلسلة كاملة من الصدمات وخيبات الأمل المؤقتة.

سيستغرق تبدد سحر ديماغوجية ترامب بعض الوقت. لكن عاجلا أم آجلا، سيسيطر الإحباط، وكلما طالت المدة قبل أن يدرك العمال أن مصالحهم الطبقية غير ممثلة، كلما كانت ردود الفعل أكثر عنفا.

دونالد ترامب الآن رجل متقدم في السن، وحتى لو نجح في تفادي رصاصة قاتل ما، فلا بد للطبيعة عاجلا أم آجلا من أن تفرض قوانينها الصارمة. وعلى أي حال، فإنه من غير المرجح أن يترشح للرئاسة مرة أخرى، حتى لو أمكن تغيير القواعد للسماح له بذلك.

من المستحيل تخيل الترامبية بدون شخص دونالد ترامب. إن قوة شخصيته، ومهارته التي لا شك فيها كقائد جماهيري وديماغوجي بارع، هي الاسمنت الذي يرص بنيان حركته المتناقضة. وبدونها، ستظهر التناقضات الداخلية الكامنة فيها حتما، مسببة أزمات داخلية وانقسامات في القيادة.

يبدو أن جي. دي. فانس هو الخليفة الأوفر حظا لدونالد ترامب، لكنه يفتقر إلى النفوذ والكاريزما الهائلتين اللتين يتمتع بهما قائده. ومع ذلك فهو رجل ذكي، وقد يتطور في اتجاهات شتى تبعا للأحداث. من المستحيل التنبؤ بالنتيجة.

هناك قانون ميكانيكي معروف ينص على أن لكل فعل رد فعل مساو له في المقدار ومعاكس له في الاتجاه. ودونالد ترامب بارع في المبالغة، فتصريحاته الديماغوجية لا تعرف حدودا. كل ما يعد به رائع، هائل، بديع، عظيم، وما إلى ذلك. وستكون درجة خيبة الأمل، عندما ستأتي في النهاية، هائلة بالقدر نفسه.

في مرحلة ما، ستبدأ حركته في الانقسام على أسس طبقية. ومع بدء تخلي العمال عنه، من المرجح أن تتجمع العناصر البرجوازية الصغيرة المجنونة في ما سيكون بمثابة جنين لمنظمة فاشية أو بونابارتية جديدة حقيقية.

ومن رحم ذلك الوضع الفوضوي، سيصبح التوجه نحو حزب ثالث أمرا لا يقاوم. لكن المسألة، بطبيعتها، ستكون مشوشة، لن يكون بالضرورة ببرنامج يساري أو حتى تقدمي بشكلٍ خاص في المقام الأول. لكن للأحداث منطقها الخاص.

سيبحث العديد من العمال، الذين سيكونون قد أحرقوا أصابعهم بتجربة ترامب، عن راية بديلة تعكس بدقة غضبهم وكراهيتهم العميقة للأغنياء والمؤسسة، والتي ليست سوى انعكاسٍ غير ناضج لعدائهم الغريزي للنظام الرأسمالي نفسه. وذلك سيدفعهم بقوة نحو اليسار.

ليس من المستبعد إطلاقا أن يكون بعض من أجرأ مناضلي الحركة الشيوعية المستقبلية في أمريكا وأكثرهم تفانيا وتضحية بالذات من العمال الذين مروا بمدرسة ترامب واستخلصوا منها الاستنتاجات الصحيحة. وقد كانت هناك سوابق عديدة لمثل تلك التطورات في الماضي، كما رأينا.

وأخيرا، أود توضيح أمر واحد، وهو أن ما عرضته لكم هنا ليس منظورا محكما، ناهيك عن أنه ليس تنبؤا مفصلا بما سيحدث في المستقبل. لأنه لتحقيق ذلك ليس المرء محتاجا إلى المنهج الماركسي، بل إلى كرة بلورية، وهي للأسف لم تخترع بعد.

لقد طرحت، بناء على جميع الحقائق الملاحظة المتاحة لي، تشخيصا أوليا للغاية، لكنه في الواقع ليس أكثر من مجرد تخمين توجيهي. يعبر الوضع الحالي عن نفسه كمعادلة بالغة التعقيد، ذات حلول متعددة. وحده الزمن كفيل بسد الثغرات وتمكيننا من الإجابات. وسيقدم لنا التاريخ مفاجآت كثيرة. ليست جميعها سيئة.


[1] The Guardian, 6 November 2024

[2] Leon Trotsky: ‘Bonapartism and Fascism’, 1934

[3]  مصطلح woke (اليقظة)، يأتي من الشعار الذي ظهر في القرن العشرين "stay woke"، "ابقَ يقظا"، وكان يحيل على ضرورة التحلي بدرجة من الاستعداد لمقاومة العنصرية. وقد صار واسع الانتشار مجددا بعد احتجاجات حركة "حياة السود مهمة". المترجم.

[4]  كان الحزب الراديكالي حزبا ليبراليا في السلطة في فرنسا في ثلاثينيات القرن الماضي. آلان وودز.