تداعيات محاولة إسرائيل الفاشلة لسحق غزة

لقد سكتت المدافع في غزة في الوقت الحالي. فبعد خمسة عشر شهرا، أدى اتفاق وقف إطلاق النار إلى إيقاف حملة الإبادة الجماعية المتواصلة ضد عشرات الآلاف من الفلسطينيين والتدمير شبه الكامل للمدينة الفلسطينية على يد إسرائيل.

[Source]

لكن أول ما يجب ملاحظته هو أن الفلسطينيين لم يركعوا أو يستسلموا حتى وهم عزل، عمليا، في مواجهة الهجوم المستمر من طرف واحدة من أكثر الآلات العسكرية فتكا في العالم. وفي المقابل فإن إسرائيل، بطائراتها النفاثة وقاذفاتها وصواريخها ودباباتها وطائراتها المسيرة، ودعم الجيش الأمريكي وغيره من الجيوش الغربية، لم تتمكن من فرض أي من أهداف الحرب المعلنة. وهكذا، فإنهم، بعبارة هنري كيسنجر، قد خسروا الحرب لأنهم فشلوا في الفوز بها. وهذا له عواقب مهمة يجب تحليلها.

بادئ ذي بدء، لا شك أن الهدنة سوف تخلق شعورا بالارتياح بين الفلسطينيين والملايين من العمال والشباب الذين وقفوا تضامنا معهم. وكذلك سيحتفل العديد من الإسرائيليين بنهاية الحرب والاضطراب الذي جلبته، وعودة الرهائن. لكن ومع ذلك فإن هذا الشعور لن يمنع من طرح السؤال الحاسم والذي هو: ما الغرض من كل هذا؟ وهل سيؤدي ذلك إلى نهاية عقود من الاضطهاد ضد الفلسطينيين؟

الدمار

بعد أن استمر جو بايدن وغيره من القادة الأوروبيين، طيلة 15 شهرا، في دعم وتمويل وتسليح آلة الحرب الإسرائيلية، سارعوا إلى تهنئة أنفسهم والابتهاج بكلبية باحتمالات السلام. لكن ما هو بالضبط ذلك السلام الذي أعده هؤلاء الناس للفلسطينيين؟

حجم الدمار في غزة، بعد عام من القصف المتواصل، كارثي بكل معنى الكلمة. تجاوز عدد القتلى، وفق الاحصاءات الرسمية 46.000 انسان، 13.000 منهم من الأطفال. ومع ذلك فإن هذه الأرقام أقل من الحجم الحقيقي للمذبحة. تشير دراسة نشرت في صحيفة The Lancet الطبية المرموقة إلى أن عدد القتلى المباشرين وغير المباشرين قد يتجاوز 70 ألف قتيل بحلول أكتوبر 2024، وقد يتجاوز، حسب الصحيفة، 186 ألف قتيل.

وبعيدا عن الخسائر المباشرة في الأرواح، فقد أحدثت الحرب جروحا عميقة في النسيج الاجتماعي في غزة. إذ نزح أكثر من 90% من السكان، أي 1,9 مليون شخص، من منازلهم. كما استهدفت مرافق الرعاية الصحية مرارا وتكرارا، حيث تم توثيق أكثر من 650 هجوما، مما أسفر عن مقتل أكثر من ألف عامل صحي. كما أصبح نظام التعليم في حالة خراب، إذ تضررت أو دمرت 95% من جميع المدارس والجامعات، مما حرم 660 ألف طفل من الحصول على التعليم الرسمي.

ووفقا للأمم المتحدة، في يناير، لم يحصل 96% من الأطفال دون سن الثانية على العناصر الغذائية المطلوبة. وفي المجمل، واجه 345 ألف شخص من سكان غزة نقصا كارثيا في الغذاء، وواجه 876 ألف شخص مستويات طارئة من انعدام الأمن الغذائي.

وقد قدم برنامج حديث لهيئة الإذاعة البريطانية صورة مروعة للحياة اليومية في غزة، حيث تبحث الأسر في أكوام القمامة عن مخلفات لبيعها كطعام، ويضطر الأطفال إلى قضاء حاجتهم في العراء، معرضين لهجمات الكلاب البرية.

إن التأثير التراكمي للحرب يمتد إلى ما هو أبعد من الدمار المادي. سوء التغذية على نطاق واسع، وانهيار أنظمة الصرف الصحي، والصدمة النفسية التي لحقت بالسكان سوف يكون لها عواقب دائمة طيلة الأجيال القادمة.

الصفقة

إن اتفاق وقف إطلاق النار نفسه، والطريقة التي تم بها التوصل إليه، يوضح الكلبية القاسية التي تتبناها الإمبريالية الإسرائيلية وداعميها في الغرب.

يحدد الاتفاق عملية من ثلاث مراحل تهدف إلى معالجة القضايا الرئيسية واستعادة الاستقرار. تركز المرحلة الأولى على تبادل الأسرى، حيث يتم إطلاق سراح 33 أسيرا إسرائيليا في مقابل حوالي 1700 فلسطيني. ومن بين الذين سيتم إطلاق سراحهم هناك أكثر من 1000 معتقل تم احتجازه دون تهمة أو محاكمة بعد 07 أكتوبر 2023. ورغم أن الصحافة الغربية تطلق على أولئك الذين تحتجزهم حماس اسم “رهائن”، بينما تطلق على المعتقلين في السجون الإسرائيلية اسم “سجناء”، فإنهم أيضا كانوا رهائن. ستبدأ إسرائيل أيضا في سحب قواتها من المناطق المأهولة في غزة، وسيعاد فتح معبر رفح مع مصر لإدخال المساعدات الإنسانية.

تهدف المرحلة الثانية إلى الانسحاب الإسرائيلي الكامل من غزة وإطلاق سراح جميع الأسرى الإسرائيليين المتبقين. وأخيرا -إذا وصلنا إلى هذا الحد!- ستكون هناك مرحلة ثالثة حيث ستتم إعادة جثث الأسرى الإسرائيليين وسيتم تنفيذ خطة إعادة إعمار طويلة الأمد لغزة.

لكن هذا يثير بعض الأسئلة المهمة. إن هذه الصفقة في جميع عناصرها الحاسمة هي نفس الصفقة التي وافقت عليها حماس في ماي 2024! بينما كانت إسرائيل تماطل، لقد تم الاتفاق على هذا من قبل الطرفين في الصيف الماضي، لكن نتنياهو أفسدها وأصر على أن إسرائيل لا يمكن أن تنسحب من ممر فيلادلفيا على الحدود بين غزة ومصر.

زعم نتنياهو أن ذلك أمر بالغ الأهمية للأمن القومي الإسرائيلي. لكن الصفقة التي تم الاتفاق عليها هذا الأسبوع تضمنت بالفعل انسحابا من ممر فيلادلفيا. لم يكن ذلك سوى ذريعة. وقد كشف عن الحسابات الكلبية لرئيس الوزراء الإسرائيلي، المدفوعة بأسباب تتعلق بالبقاء الشخصي والسياسي، وهو الأمر الذي لم يخف عن أسر الرهائن الإسرائيليين.

في مؤتمر صحفي عقده البيت الأبيض للإعلان عن الصفقة، رفض جو بايدن الاعتراف بدور دونالد ترامب في تأمين الصفقة، حيث قال: «هل هذه مزحة؟». لكن الحقيقة هي أن بايدن لم تكن له أية علاقة بالاتفاق الذي تم التوصل إليه في النهاية. فقد تم تأمينه فقط من خلال تدخل دونالد ترامب، قبل أن يتولى منصبه!

كان ممثل ترامب هو مبعوثه ستيفن ويتكوف، الذي هو ملياردير ومقاول عقاري وحليف وثيق له. لم يكن ويتكوف يشغل أي منصب رسمي، ومع ذلك فإنه لم يكتف فقط بدفع الصفقة إلى الانتهاء في قطر، حيث كانت تجري المفاوضات، بل قام أيضا بإجبار رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، بطريقة صارمة وفظة، على التوقيع عليها دون تأخير.

دعونا نعد صياغة الحقائق الأساسية حتى الآن: لقد نجح دونالد ترامب في تأمين صفقة لم تتمكن إدارة بايدن من تأمينها طيلة أكثر من ثمانية أشهر. ما يتضح من هذا هو أن بايدن لم تكن لديه أية نية أو رغبة محددة في بذل جهد حقيقي لحمل إسرائيل على وقف حربها.

لقد كانوا يتحدثون عن السلام، وفي الوقت نفسه يعملون على تسليح إسرائيل ومنحها كل أشكال الدعم الذي تطلبه. لقد أنفقت الولايات المتحدة، في المجموع، 17,9 مليار دولار على المساعدات العسكرية لإسرائيل، من أكتوبر 2023 إلى أكتوبر 2024. كما دعمت القوات الأمريكية والبريطانية إسرائيل بجمع المعلومات الاستخباراتية وتحديد الأهداف. وشكلت الحكومات الغربية جبهة سياسية موحدة للدفاع عن إسرائيل.

وبالتالي، فإن واشنطن وأتباعها الأوروبيين شكلوا في كل شيء جزءا من تحالف الحرب الإسرائيلي، ولم تكن لديهم أية نية لإجبار نتنياهو على عقد صفقة. كان هذا جزءا من السياسة الخارجية الأساسية لبايدن، والتي تقوم على أن الولايات المتحدة يجب أن تواجه بقوة أي تحد لهيمنتها أو هيمنة حلفائها في أي مكان في العالم.

وبناء على ذلك فإنه لا يمكن للولايات المتحدة، مهما حدث، أن تظهر وكأنها تتراجع. وإذا تعرضت في أي وقت للضغوط، فيجب عليها فقط مضاعفة القوة. لكن مضاعفة الجهود لإظهار قوة الإمبريالية الأمريكية لم تؤد إلا إلى إظهار حدود قوتها.

نصر أم هزيمة

على الرغم من القوة العسكرية الساحقة التي تمت تعبئتها ضد غزة، فقد فشلت إسرائيل في تحقيق أهدافها الرئيسية في الحرب، والتي كانت هي تدمير حماس وإعادة الرهائن. ما تزال حماس حتى يومنا هذا قوة فعالة، قادرة على إلحاق الخسائر في صفوف القوات الإسرائيلية وشن هجمات صاروخية. وفي الوقت نفسه، أدت الحرب إلى تجدر هائل للشباب الفلسطيني المستعد لتجديد صفوف المنظمة.

قال أمير أفيفي، العميد الإسرائيلي المتقاعد، لصحيفة وول ستريت جورنال: «نحن في وضع حيث وتيرة إعادة بناء حماس لنفسها أعلى من وتيرة استئصال الجيش الإسرائيلي لها».

لم يعجزوا فقط عن تدمير حماس، بل إنها مسؤولة بشكل كامل عن غزة التي وافقت إسرائيل على الانسحاب الكامل منها. ومع انسحاب اسرائيل من ممر فيلادلفيا واستئناف التجارة والمساعدات، فإن الوضع، من وجهة نظر من يحكم غزة، قد بدأ يعود إلى ما كان عليه بالضبط في 06 أكتوبر 2023. بعبارة أخرى، فالنتيجة هي فشل كامل للمهمة الإسرائيلية وإذلال للدولة الإسرائيلية. وفي مرحلة معينة، سوف يؤدي هذا إلى طرح أسئلة حاسمة داخل إسرائيل.

رسميا زعم نتنياهو أن الحرب كانت ضرورية لإعادة الرهائن، ومع ذلك يمكننا أن نرى أن الحرب لم تعد حول الرهائن على الإطلاق. من الواضح أنه أشعل هذه الحرب وعمل على تمديدها باستمرار كوسيلة للحفاظ على قبضته على السلطة وتجنب قضايا الفساد التي كانت ترفع ضده.

في غضون ذلك، دفعت إسرائيل ثمنا باهظا. فرسميا، قُتل ما لا يقل عن 400 جندي إسرائيلي وجُرح ما يصل إلى 6000. الأرقام الحقيقية أعلى بكثير ولا تأخذ في الاعتبار اضطراب ما بعد الصدمة والصدمات النفسية الأخرى التي انتشرت بين الجنود المنخرطين في الحرب. في غضون ذلك، من الواضح أن العديد من الرهائن ماتوا بينما كان نتنياهو مشغولا بتعطيل أي صفقة.

شقوق في الدرع

من الواضح أن إرهاق الحرب الممتد إلى القوات الإسرائيلية نفسها قد لعب أيضا دورا في ايقافها. ورغم أن الدعم للحرب ما يزال مرتفعا، فقد بدأ ذلك المزاج الأولي لهستيريا الحرب يتبدد. صار هذا واضحا من خلال انخفاض عدد جنود الاحتياط الذين يلتحقون بالخدمة بعد استدعائهم من نحو 100% في بداية الحرب إلى 75-85% في نوفمبر الماضي.

وقد نشرت صحيفة هآرتس تقريرا دامغا عن القلق المتزايد بين جنود الاحتياط. ووفقا لأحد الاستطلاعات، فقد وجدوا أن «56% فقط من اليهود هم من يشجعون أحد أفراد الأسرة الذي خدم بالفعل في الاحتياط على العودة مرة أخرى إلى الخدمة». وفي الواقع، ووفقا لنفس الاستطلاع الذي أجري في غشت، فإن «57% فقط من الإسرائيليين اليهود هم من يشجعون أبناءهم على الالتحاق بالخدمة على الإطلاق». وعلاوة على ذلك فإنه «من يونيو إلى نوفمبر، تضاعفت تقريبا نسبة الذين قالوا إنهم لن يشجعوهم على الالتحاق (من 7,5% إلى 13%)».

أكد ضابط رفيع المستوى أجرت الصحيفة مقابلة معه على الصعوبات التي تواجه حمل الجنود على الذهاب إلى غزة قائلا: «إن الأمور تزداد سوءا، وهناك شعور أقل فأقل بوجود نقطة النهاية».

وأدلى أحد جنود الاحتياط الذين خدموا ثلاث جولات بسلسلة من التعليقات الكاشفة بشكل ملحوظ، حيث قال:

«هناك شعور عام بأن البنية تتهاوى. إن الانضباط ليس كما ينبغي أن يكون. فنحن لا نشعر بأن هناك خطة لليوم التالي واليوم الذي يليه. وليس من الواضح نهائيا ما الذي نفعله، فهناك شعور بأن كل قائد فرقة يفعل ما يعتقده، لأن هناك نوعا من الفراغ. وإذا سأل الجنود فإنهم يقولون: “الأمر معقد، وأنتم لا تفهمون”.».

إنها كلمات خطيرة صادرة عن جنود كانوا تحت ضغوط هائلة للحفاظ على جبهة موحدة حول الجيش. رسميا، كانت الحرب تخاض لاقتلاع حماس وتحرير الرهائن، لكن الجنود على الأرض كانوا يرون واقعا مختلفا:

«بحلول الصيف، كان الجنود أقل ثقة في الأهداف الرئيسية للحرب، ولم يحدث أي تقدم مع الرهائن».

في الواقع، كان الرهائن يموتون بسبب تصرفات الجيش الإسرائيلي: «لقد بدأنا نشعر بأننا لا نفعل أي شيء جيد. ثم كانت لدينا عمليات [لم نفهم غرضها]، […] لقد قُتل الناس في تلك العمليات، ولم نفهم التكتيكات أو الاستراتيجية».

هذه إشارات تحذيرية خطيرة للطبقة السائدة الإسرائيلية، التي تعتمد على أسطورة دولتها، وخاصة جيشها، كمدافع عن الشعب اليهودي. لقد اهتزت تلك التأكيدات بشكل خطير خلال الأشهر الخمسة عشر الماضية من الصراع.

لم يعجز الجيش الإسرائيلي عن هزيمة حماس في غزة فحسب، بل إن عدوانه فتح الأبواب أمام الانتقام من حزب الله في لبنان، والحوثيين في اليمن، وكذلك من إيران التي اكتسحت دفاعات الصواريخ الإسرائيلية في استعراض للقوة في أكتوبر. في الواقع، لم تتمكن الدفاعات الإسرائيلية حتى من وقف هجمات صواريخ حماس التي استمرت طوال الصراع.

وفي الوقت نفسه، تأثر الاقتصاد الإسرائيلي بشدة. ووفقا لبنك إسرائيل، فإن تكاليف الحرب الإسرائيلية من عام 2023 إلى عام 2025 قد تصل إلى 55,6 مليار دولار، وهي تكلفة تصل إلى 10% من الناتج المحلي الإجمالي. إن الآفاق البعيدة الأمد للاقتصاد الإسرائيلي القائم على التكنولوجيا العالية المتزايد لا تبدو جيدة في ظل حالة عدم الاستقرار. فالقطاع يعتمد على قوة عاملة شابة متعلمة في سن التجنيد، والتي تأثرت بشكل خاص بالحرب. وكل هذا من شأنه أن يدفع إسرائيل إلى دوامة من الأزمات المتفاقمة المتعاقبة والتي من شأنها أن تقوض تدريجيا تماسك المجتمع الإسرائيلي.

وهكذا فإنه لم يتم حل أي شيء. بل على العكس من ذلك، فقد أصبحت إسرائيل أكثر عُرضة للخطر وأكثر هشاشة مما كانت عليه قبل الحرب. كانت تلك، في واقع الأمر، هزيمة.

لكن الضرر لم يكن ماديا فحسب. إن ما تضرر أيضا هو تلك الفكرة الرجعية القائلة بأن الدولة العسكرية شديدة التسليح هي وحدها القادرة على ضمان سلامة ورفاهية اليهود الإسرائيليين. ولولا هذه الكذبة لما كان بوسع الطبقة السائدة الإسرائيلية أن تحافظ على وجودها لمدة ثمانية عقود.

لكن وكما أثبت لنا الواقع، فإنه يبدو أن العكس تماما هو الصحيح. ذلك أن الموقف العدواني الذي تنتهجه إسرائيل يستدعي بشكل متزايد العدوان والفوضى داخل إسرائيل نفسها. وكما حذرت صحيفة هآرتس فإن:

«الرياح المعاكسة للحرب تعمل ضد الروح المعنوية في الأمد البعيد. إذا انتهت الحرب غدا، فسوف تحتاج إسرائيل على ما يبدو إلى سنوات لإعادة بناء عقدها الاجتماعي والعسكري. وإذا استؤنفت الحرب في اليوم التالي، فسوف ينتشر الانحدار المعنوي».

أزمة النظام

لا شك أن نتنياهو وجناحه داخل الطبقة السائدة الإسرائيلية قد تلقوا هزيمة من صنع أيديهم. فقد تعرض مشروعه للرفض وأهانه دونالد ترامب، الذي ادعى أنه حليف قوي له.

ربما كان كذلك، لكن دونالد ترامب هو حليف نفسه وحليف الإمبريالية الأمريكية قبل أي شخص آخر، والحرب المستمرة التي لا تنتهي في الشرق الأوسط لا تناسب أغراضه. ومهما كانت أوهام نتنياهو فقد أظهر له ترامب من هو السيد الحقيقي في تلك العلاقة. فبدون الدعم العسكري والاقتصادي الأمريكي، ستنهار الدولة الإسرائيلية بسرعة.

لا شك أن ترامب قد وعد نتنياهو بسلسلة من التنازلات في مقابل ابتلاعه لاتفاق وقف إطلاق النار، لكن ذلك لا يغير حقيقة أنه تراجع مهين للإمبريالية الإسرائيلية.

بالطبع، لا يوجد ما يضمن أن الإسرائيليين سوف يلتزمون بكلماتهم. لا شك أن حركة المستوطنين الرجعية وأحزابها التي كانت حليفة رئيسية لنتنياهو، سوف تدفع، في مرحلة معينة، في اتجاه تجدد الحرب.

لقد استقال بالفعل أحد ممثليهم الرئيسيين، وزير الأمن القومي اليميني المتطرف، إيتامار بن غفير، من حكومة بنيامين نتنياهو. وهو ما لم يترك لنتنياهو سوى أغلبية ضئيلة في البرلمان، وبالتالي أدى إلى زيادة النفوذ الذي تتمتع به الأحزاب الأخرى في الائتلاف. لقد بقي وزير المالية اليميني المتطرف بتسلئيل سموتريتش في الحكومة، لكنه هدد بالاستقالة إذا لم تستأنف الحرب بعد المرحلة الأولية من وقف إطلاق النار التي من المقرر أن تستمر 42 يوما. لكنهم إذا استمروا على هذا الخط، فإن كل التناقضات التي تراكمت حتى الآن سوف تستمر في التصاعد، وبالتالي تحضر لأزمة أعمق في المستقبل.

ومن ناحية أخرى، هناك موقف جزء كبير من سكان المناطق الحضرية الذي كانوا على الدوام يكرهون نتنياهو والمستوطنين والجناح اليميني. ومع انقشاع الغبار وتراجع جنون الحرب المتطرف إلى حد ما، سوف يضطر العديد من أفراد هذه الشريحة إلى التعامل مع واقع جديد. وفي هذا السياق، سوف يبدأ البعض في البحث عن مسار آخر -مسار مختلف عن العسكرة والإمبريالية- وبالتالي سيدخلون في صراع مع المعايير الراسخة للصهيونية الإسرائيلية.

نرى هنا خطوط الصدع في الصراع الاجتماعي، التي ستتسع في المستقبل والتي قد تكتسب في مرحلة معينة طابعا طبقيا.

أزمة الإمبريالية الغربية

لقد أكدنا مرارا منذ بداية هذه الحرب أن الغرب متواطئ ومشارك مباشر في جرائم الإمبريالية الإسرائيلية. لقد دعموا الحرب على غزة ماليا وعسكريا وسياسيا. وألقوا بكل قوتهم خلف إسرائيل لإظهار قوة الإمبريالية الغربية للعالم أجمع. ومع ذلك، فقد كانت النتيجة معاكسة تماما. ما حدث هو هزيمة، ليس فقط لإسرائيل، بل وللإمبريالية الأمريكية، والغرب عموما، فضلا عن المؤسسة السياسية الليبرالية.

وعلى الرغم من كل المحاولات، لم تتمكن الآلة العسكرية الإسرائيلية، المدعومة من حلفائها الأقوياء، من سحق المقاومة الفلسطينية. إن هذا تذكير صارخ بحدود الإمبريالية الغربية، التي عانت من مصير مماثل في العراق وأفغانستان، والتي تواجه هزيمة أكبر في أوكرانيا.

لقد أثارت الحرب استياء واسع النطاق داخل الولايات المتحدة حيث أدار ملايين العمال والشباب ظهورهم للديمقراطيين بسبب إثارتهم للحروب. وكان ذلك عاملا مهما في انهيار الدعم للديمقراطيين وانتخاب ترامب، الذي وعد بإنهاء الحروب التي لا نهاية لها. أما ما إذا كان سيفعل ذلك بالفعل فهي بطبيعة الحال، مسألة أخرى تماما.

إن السياسة الخارجية لترامب هي اعتراف بحدود الإمبريالية الأمريكية. فبدلا من العمل على مضاعفة الجهود في استعراض القوة العسكرية، وهو ما يأتي بنتائج عكسية، يميل هو إلى التراجع وتقديم التنازلات وحماية المصالح الأساسية للرأسمالية الأمريكية، التي ليست من مصلحتها مواصلة حرب لا يمكن الفوز بها على غزة وزعزعة استقرار الشرق الأوسط. أمريكا أولا، وبقية العالم ثانيا. على الأقل، يبدو أن هذا هو هدفه. سواء نجح أم لا فهذه مسألة أخرى.

إن هذا في جوهره يعني تراجعا جزئيا للإمبريالية الأمريكية، وهو ما ستكون له عواقب بعيدة المدى. والأمر الأكثر أهمية هو أنه سيؤثر على وعي الملايين من الناس في الولايات المتحدة والغرب. فكل أفكار التفوق الأخلاقي الغربي والقوة الغربية تنفضح بشكل متزايد مع كل انتكاسة. وهذا يزيد من أزمة المؤسسة الليبرالية التي سيطرت على واشنطن والعواصم الأوروبية طيلة فترة ما بعد الحرب.

لقد قدموا أنفسهم باعتبارهم المدافعين عن مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان والقانون الدولي. لكن ما صار واضحا بالنسبة لعدد متزايد من الناس هو أن الليبرالية اليوم هي منبع الرجعية، وأن “نظامهم القائم على القواعد” هو خدعة كلبية تهدف إلى التغطية على مصالحهم الإمبريالية الهمجية.

إن هؤلاء السيدات والسادة، الذين يرتدون ملابس أنيقة ويتحدثون بلباقة في بعض الأحيان، والذين تلقوا تعليمهم في أفضل الجامعات، ويتمتعون بابتسامات مهذبة وسلوك راق، هم مصدر السياسات الأكثر رجعية في الخارج وكذلك في الداخل.

هم من خفضوا الدعم على وقود التدفئة لكبار السن الفقراء في بريطانيا، بينما يرسلون المليارات لخوض الحروب في أوكرانيا وغزة. وهم من خفضوا الإنفاق على الرعاية الصحية وغير ذلك من أشكال الرعاية الاجتماعية، بينما ينفقون تريليونات الدولارات على التسليح. وهم من يتحدثون عن الديمقراطية بينما يضطهدون الناس الذين يدافعون عن حقوق الفلسطينيين. وبالتالي فإنه ليس من المستغرب أن تشهد جميع البلدان ردة فعل عنيفة ضد تلك القوى.

وردة الفعل العنيفة هذه على وجه التحديد، أي الصراع الطبقي المتصاعد في الغرب، هي التي تقدم الأمل في تحرير فلسطين. لقد أظهرت الجماهير الفلسطينية صلابة وروحا كفاحية عظيمة. لكننا يجب أن ننظر إلى الواقع مباشرة. لقد فشلت حرب إسرائيل، لكن النضال من أجل تحرير فلسطين لم ينتصر. والواقع أن هذا النضال فشل في حل أي من المشاكل الأساسية التي طرحها.

لقد غرق الفلسطينيون الآن أكثر فأكثر في هاوية الهمجية التي لا يمكن أن ينبثق منها أي سلام حقيقي. لقد تحولوا إلى مجرد جيوب صغيرة من الجماهير المفقرة التي لا تملك إلا أسلحة خفيفة، في مواجهة دولة عسكرية قوية عالية التقنية. لا يمكن إسقاط الدولة الصهيونية بالعمل العسكري المحض.

إن أفضل طريقة لضرب إسرائيل هي من ناحية تقسيم المجتمع الاسرائيلي على أسس طبقية مع توجيه نداء إلى كل هؤلاء الإسرائيليين الذين سيبدأون في الفترة القادمة في الشك في الاتجاه الحالي لإسرائيل والانفصال عن طبقتهم السائدة؛ ومن ناحية أخرى ضرب الإمدادات الإسرائيلية من الأسلحة والتمويل والغطاء السياسي المتدفق من الغرب. وبالتالي فإن مصير الفلسطينيين اليوم قد أصبح أكثر ارتباطا بمصير الطبقة العاملة العالمية من أي وقت مضى. إن النضال من أجل القضاء على الدولة الصهيونية الإسرائيلية ومن أجل فلسطين حرة حقا هو نفس النضال ضد الرأسمالية في الغرب، وخاصة في الولايات المتحدة. ولابد وأن يكون النضالان متصلان.

إن أزمة الرأسمالية العالمية تشعل نيران الصراع الطبقي في كل مكان. ولا يمكن للعمال والفقراء في هذا النضال أن يعتمدوا إلا على قواهم الذاتية. لكنهم إذا اتحدوا لا يمكن لأحد أن يوقفهم. إن النضال من أجل فلسطين الحرة يبدأ بالنضال ضد الرأسمالية والإمبريالية في الداخل.

Join us

If you want more information about joining the RCI, fill in this form. We will get back to you as soon as possible.