لينين بين ثورتين: الكتابات التي قادت إلى ثورة أكتوبر Share Tweetيبرز عام 1917 باعتباره نقطة تحول في تاريخ البشرية. فللمرة الأولى في التاريخ تنهض الجماهير الكادحة والمضطهَدة للنضال وتنتصر! لكن يمكننا أن نقول على وجه اليقين إن ذلك النصر لم يكن ممكنا إلا بفضل وجود حزب مدرب نظريا ومتمرس عمليا، حزب هو الأكثر ثورية في التاريخ: الحزب البلشفي. رغم ذلك فإنه حتى ذلك الحزب كان ليفشل في تحقيق تلك المهمة لولا وجود القيادة الواضحة والثابتة للينين.[Source]ننشر فيما يلي مقدمة لمجموعة جديدة من كتابات لينين الثمينة لعام 1917، عنوانها: “ثورات 1917: كتابات لينين المختارة”، وهي مجموعة جديدة من أعمال لينين من إصدار دار النشر التابعة للأممية الشيوعية الثورية Wellred Books. وفي هذه المقدمة يشرح روب سويل الدروس العظيمة التي تقدمها ثورة 1917 للشيوعيين اليوم، ويسلط الضوء على تطور أفكار لينين بين ثورتي فبراير وأكتوبر.قراءة هذا النص ضرورية لكل من يريد دراسة أسلوب لينين من أجل الإطاحة بالرأسمالية والإمبريالية اليوم.احصل الآن على نسختك من “ثورات 1917: كتابات لينين المختارة” من Wellred Books. النص متاح على شكل كتاب مادي، وكتاب إلكتروني، بالإضافة إلى كتاب صوتي.لم يسبق أن كان هناك وقت أكثر ملاءمة لإعادة نشر كتابات لينين من العصر الحالي: عصر الأزمة المتفاقمة للرأسمالية العالمية. هذه المجموعة الجديدة من رسائل لينين ومقالاته المكتوبة في عام 1917، أي العام الذي بلغ ذروته بانتصار الطبقة العاملة الروسية، هي مجموعة مهمة بشكل خاص. لقد كانت ثورة أكتوبر، بعد كل شيء، أعظم حدث في تاريخ العالم وقد أظهرت أنه يمكن إدراة المجتمع بدون الرأسماليين.تقدم هذه الكتابات نظرة عميقة رائعة إلى فكر لينين، زعيم الحزب البلشفي، الذي لولاه لما نجحت الثورة. إذ أنها، وفوق كل شيء، تتتبع كيف تحقق انتصار أكتوبر وتشرح التغيرات المفاجئة التي حدثت على مدار العام وكيف تمكن البلاشفة من إعداد الطبقة العاملة للاستيلاء على السلطة في نهاية المطاف.إن هذه الكتابات، التي تتبع تيارات الثورة والثورة المضادة في عام 1917، تكشف عن النهج المرن الذي تبناه لينين في معالجة المشاكل التي كانت تظهر في كل مرحلة. إنها تطبيق كلاسيكي للمنهج الماركسي، وتطبيق للفهم الديالكتيكي على الوضع الملموس المتغير باستمرار. وتشكل كنزا حقيقيا من الأفكار بالنسبة للعامل الواعي طبقيا.إن الغرض من هذه المقدمة ليس تقديم تأريخ لعام 1917، بل تقديم مخطط موجز لنهج لينين في التعامل مع الأحداث. وهناك عدد من الأعمال الكلاسيكية التي تغطي تلك الفترة بشكل شامل وتوفر فهما عميقا للثورة. وأول وأهم تلك الدراسات هي الدراسة الضخمة التي أجراها ليون تروتسكي بعنوان “تاريخ الثورة الروسية”، والتي قامت ببراعة بتحليل الثورة في كل منعطفاتها وشرح القوى الموضوعية والذاتية التي كانت تلعب دورا في تلك الثورة. وفوق كل هذا، فقد رصد التغيرات العظيمة التي طرأت على وعي الجماهير التي كانت القوة المحركة للثورة. يكتب تروتسكي في سطوره الافتتاحية:” كانت روسيا خلال الشهرين الأولين من عام 1917 ما تزال تحت حكم ملكية آل رومانوف. وبعد ثمانية أشهر صار البلاشفة في السلطة. لم يكن أحد يعرفهم عندما بدأ العام، وعندما وصلوا إلى السلطة كان قادتهم ما يزالون متهمين بالخيانة. لن تجد أي مثال أخر عن هذا التحول الحاد في التاريخ، خاصة إذا تذكرت أنه يتعلق بأمة يبلغ عدد سكانها 150 مليون نسمة”[1].الأخبار الأولى عن ثورة فبراير -التي هي اكتساح الجماهير بالقوة لمسرح التاريخ- والإطاحة بالنظام القيصري الروسي وصلت إلى لينين وهو في زيوريخ في 02 مارس وفقا للتقويم القديم (15 مارس وفقا للتقويم الجديد)، بعد أسبوع كامل على اندلاع الثورة[2].لقد قضى معظم حياته في المنفى، وكان زعيما لما ثبت أنه الحزب الأكثر ثورية في التاريخ. إذا نظرنا إلى إلى الوراء يمكننا أن نقول إن كامل تجربة لينين في الحياة قد أعدته لما كان على وشك الحدوث.كانت تقارير الصحف الأجنبية تؤكد أن الثورة في روسيا قد أسست حكومة مؤقتة برجوازية، وأفرزت سلطة جديدة، هي سوفييت نواب العمال والجنود في بتروغراد، الذي وصفه لينين في عام 1905 بأنه “جنين لحكومة ثورية مؤقتة”[3]. وكان ظهور هذين الكيانين يعكس “ازدواجية السلطة” التي ظهرت فجأة.كان تفوق لينين يتمثل في قدرته على أن يدرك على الفور أهمية ما كان يحدث، فشرع على الفور في صياغة مقال لصحيفة برافدا البلشفية طرح فيه الخطوات التي كان الحزب بحاجة إلى اتخاذها.كان لينين يحب دائما اقتباس عبارة من مسرحية فاوست لغوته: “النظرية، يا صديقي، رمادية، لكن شجرة الحياة الأبدية خضراء”. إن الحياة هي دائما أكثر تنوعا وثراء من أكثر النظريات تألقا. لقد طرحت الثورة موقفا لم يكن متصورا بالكامل من قبل. وكانت مهمة الحزب الثوري هي التكيف مع الظروف المتغيرة. وكان ذلك يتطلب تغييرا حادا في توجهات الحزب البلشفي وتكتيكاته.بالنسبة للينين، كان سقوط النظام القيصري ووصول حكومة مؤقتة برجوازية إلى السلطة مجرد المرحلة الأولى. وقد وضع عجز تلك الحكومة عن حل المشاكل التي تواجهها احتمال ثورة جديدة على جدول الأعمال. وبعبارة أخرى فقد كان الاستيلاء على السلطة من قبل الطبقة العاملة هو السبيل الوحيد لتحقيق التطلعات الأكثر إلحاحا للجماهير، أي السلام والخبز والحرية. كان ذلك التحول الجذري في الأحداث يعني التخلي عن الشعار البلشفي القديم “دكتاتورية العمال والفلاحين الديمقراطية”، والذي كان عبارة عن صيغة جبرية تستند إلى استمرار الرأسمالية، لكنها آنذاك صارت متجاوزة. وقد كتب في وقت لاحق في رده على كامينيف: “إن الصيغة عفا عليها الزمن. إنها ليست جيدة على الإطلاق. لقد ماتت. ولا جدوى من محاولة إحيائها”[4].إلا أن ذلك التغيير لم يكن مباشرا أو سهل المنال. إذ أنه كلما كان من الضروري إحداث مثل ذلك التحول الحاد، تظهر هناك دائما مقاومة من طرف أولئك الذين ما زالوا مرتبطين بالماضي. وكان هذا هو الحال بين القادة البلاشفة. وفي الواقع، كان الشخص الآخر الوحيد الذي توصل، بشكل مستقل، إلى نفس الاستنتاجات التي توصل إليها لينين، هو ليون تروتسكي، الذي كان في المنفى في نيويورك.في رسالة وداعه للعمال السويسريين، أوضح لينين أن الشرف العظيم المتمثل في بدء الثورة العالمية قد وقع على عاتق البروليتاريا الروسية. وقال: “روسيا بلد فلاحي، وواحد من أكثر البلدان الأوروبية تخلفا. لا يمكن للاشتراكية أن تنتصر هناك بشكل مباشر وفوري“[5]. وقد أظهر لينين أمميته بقوله إن الثورة الروسية ستكون “مقدمة للثورة الاشتراكية العالمية، وخطوة نحوها”[6]. ثم انتقل إلى الإشادة بالبروليتاريا الألمانية، التي كانت “الحليف الأكثر جدارة بالثقة والأكثر موثوقية للثورة البروليتارية الروسية والعالمية”[7].كانت الأممية، بالنسبة للينين، تشكل قضية مركزية، وكان مصير الثورة الروسية مرتبطا بها ارتباطا لا ينفصم. ففي نهاية المطاف، كان لينين، على خطى ماركس وإنجلز، يدرك تمام الإدراك أن الأساس المادي لبناء الاشتراكية، ناهيك عن المجتمع الشيوعي الخالي من الطبقات، لم يكن موجودا في نطاق روسيا المتخلفة، بل فقط على نطاق عالمي.تحتوي هذه المختارات من كتابات لينين على الثلاث رسائل الأولى من “رسائل من بعيد” الشهيرة، وهي سلسلة من خمس رسائل حددت منظوراته ومهامه، وكانت آخرها غير مكتملة وكتبت عشية رحيله من سويسرا إلى روسيا الثورية. لكن وحدها الرسالة الأولى هي التي نشرت في برافدا، وذلك بشكل خاص بسبب مقاومة كامينيف وستالين، اللذين كانا أول زعيمين بلشفيين يعودان إلى بتروغراد واللذين تبنيا موقفا تصالحيا تجاه الحكومة المؤقتة.كان لينين قد أرسل بالفعل برقية عاجلة إلى الزعماء البلاشفة في روسيا يؤكد فيها على ما يجب القيام به:“تكتيكاتنا هي: لا ثقة في الحكومة الجديدة ولا دعم لها؛ وكيرينسكي مشتبه به بشكل خاص؛ إن تسليح البروليتاريا هو الضمانة الوحيدة؛ نعم لانتخابات فورية لمجلس مدينة بتروغراد؛ لا تقارب مع الأحزاب الأخرى. أرسل هذه إلى بتروغراد”[8].طالب لينين، أولا وقبل كل شيء، بعدم الثقة في الحكومة المؤقتة، التي كانت حكومة برجوازية موالية للإمبريالية. كانت الطبقة العاملة بحاجة إلى الدفاع عن وجهة نظرها الطبقية المستقلة. وبالتالي، فقد كان أي شخص يدافع عن دعم الحكومة المؤقتة يعتبر في نظر لينين “خائنا للعمال، وخائنا لقضية البروليتاريا، ولقضية السلام والحرية”[9].كانت هذه البرقية بمثابة طلقة تحذيرية لأولئك الزعماء، وخاصة كامينيف وستالين، الذين استسلموا لنشوة الموجة الأولى من الثورة وكانوا مسؤولين عن اتباع خط تصالحي في برافدا. لقد استخدموا أعمدة الصحيفة البلشفية لحشد الدعم لصالح الحكومة المؤقتة وجهود الحرب “طالما استمرت” تخدم الثورة.وجه إليهم لينين انتقادات حادة في رسالته الأولى بأسلوبه المباشر المعتاد:“ثورتنا هي ثورة برجوازية، وبالتالي، يجب على العمال دعم البرجوازية، كما يقول بوتريسوف وغفوزديف وتشيخيدزه، وكما قال بليخانوف أمس”[10].“كلا!” أجاب لينين بشكل حاسم:“إن ثورتنا هي ثورة برجوازية، كما نقول نحن الماركسيون، لذلك يجب على العمال أن يفتحوا أعين الشعب على الخداع الذي يمارسه الساسة البرجوازيون، وأن يعلموهم ألا يثقوا في الكلمات، وأن يعتمدوا بالكامل على قوتهم الخاصة، وتنظيمهم الخاص، ووحدتهم الخاصة وأسلحتهم الخاصة“[11].ورغم أن لينين كان متحمسا لدخول الجماهير إلى الميدان، فإنه لم يكن من النوع الذي يسكر بالعبارات الثورية. لقد تبنى وجهة نظر رصينة للغاية للأشياء. فبالنسبة له، كانت الثورة الأولى مجرد مقدمة لثورة ثانية. وأكد أنه:“يجب أن تجترحوا معجزات في التنظيم، تنظيم البروليتاريا والشعب بأكمله، لتمهيد الطريق لانتصاركم في المرحلة الثانية من الثورة…”[12].وكما فعل في عام 1905، فقد عرّف مرة أخرى سوفييتات نواب العمال والجنود، على النحو التالي:“… إنها جنين حكومة العمال، وممثل مصالح كل الجماهير الفقيرة من السكان، أي تسعة أعشار السكان، الذين يناضلون من أجل السلام والخبز والحرية”[13].ومن خلال تلك الكتابات، أوضح لينين مرارا أن النظرية الماركسية ليست عقيدة دوغمائية، بل هي مجرد دليل للعمل، وأن البلاشفة بحاجة إلى تكييف تكتيكاتهم مع التغيرات السريعة والفجائية التي تجري في الواقع.وقد طور الأفكار الأساسية التي تضمنتها تلك الرسائل، وخاصة الرسالة الخامسة، في كتابات أخرى له، مثل “رسائل حول التكتيكات” و”مهام البروليتاريا في ثورتنا”، والتي أكدت جميعها على التغير في الواقع، والذي كان لابد من مواجهته بتغيير مماثل في الشعارات السياسية التي يرفعها البلاشفة.كان لينين قبل عودته إلى بتروغراد وحيدا في هذا المنظور. كان “البلاشفة القدامى” عالقين في الماضي وفشلوا في رؤية أهمية التغيرات التي كانت تجري تحت أنوفهم. وعندما نُشرت أطروحات أبريل في برافدا، كتب كامينيف، الذي كان محرر الصحيفة، الملاحظة التالية:“أما بالنسبة للمخطط العام للرفيق لينين، فيبدو لنا أنه غير مقبول لأنه ينطلق من افتراض أن الثورة الديمقراطية البرجوازية قد انتهت، ويعتمد على التحول الفوري لهذه الثورة إلى ثورة اشتراكية”[14].لذلك فإنه عند وصوله إلى روسيا، كانت مهمته المباشرة هي إقناع الحزب البلشفي بالمنظور الجديد. كان لزاما عليه أن “يعيد تسليح” الحزب. وصل لينين ليلة الثالث (16) من إبريل وحضر مؤتمر الحزب في اليوم التالي، حيث قدم أطروحاته باسمه الشخصي، كانت عزلته شديدة. وقد لخص لينين تلك الأطروحات في “مهام البروليتاريا في الثورة الحالية”. حيث يوضح موقفه من الحرب الإمبريالية قائلا:“إن أدنى تنازل لصالح الدفاع الثوري هو خيانة للاشتراكية، وتخل كامل عن الأممية، بغض النظر عن العبارات الجميلة والاعتبارات “العملية” التي قد تستعمل لتبرير ذلك”[15].من الواضح أن هذا لم يكن موجها إلى الاشتراكيين “المعتدلين” فحسب، بل وأيضا إلى كامينيف وستالين والمواقف التي كانا يتبنيانها.ومع ذلك، فقد أوضح أن الحزب بحاجة إلى التعامل مع “الجماهير العريضة من الشعب بطريقة مختلفة“[16]. وقال:“إن الجماهير الذين يؤمنون بالدفاع الثوري نزيهون، ليس بالمعنى الشخصي، بل بالمعنى الطبقي، أي أنهم ينتمون إلى طبقات (العمال والفلاحين الفقراء) ليس لديها في الواقع ما تكسبه من الإلحاقات وإخضاع الشعوب الأخرى”[17].كان من الضروري شرح الطبيعة الحقيقية للحرب وأن الإطاحة بالحكومات الرأسمالية هي السبيل الوحيد إلى سلام ديمقراطي حقيقي.في وقت اندلاع الحرب، في عام 1914، ونظرا لعزلة الحزب والارتباك الذي كان موجودا داخله، كان لينين يوجه أفكاره إلى الكوادر. كان قد دعا إلى الانهزامية الثورية، أي معارضة الطبيعة الإمبريالية وأهداف الحرب، وتصليب الكوادر ضد نزعة الدفاع عن الوطن التي كانت سائدة. لكن وحتى في ذلك الوقت، كان لينين يميز بين العمال الدفاعيين الشرفاء، وبين الموقف الإمبريالي للاشتراكيين الوطنيين والحكومات البرجوازية.أما في 1917، فقد كان يوجه أفكاره إلى جمهور غفير، وهو ما يعني تغييرا في طريقة عرضه. ففي حين كان المحتوى هو نفسه كما كان من قبل، فإن مقاربته كانت مختلفة.كان عليه أن يصمم وجهة نظره بحيث تأخذ في الاعتبار وجهات نظر الدفاعيين النزهاء، و”يشرح بصبر” طبيعة الحرب الإمبريالية. يتضح هذا التغير بالكامل في كتاب “مختارات لينين: عن الحرب الإمبريالية”، الذي نشرته مؤخرا دار Wellred Books للنشر، والذي يحتوي على كتاباته حول هذه المسألة.بالنسبة للينين كان الوقت قد حان آنذاك للقطيعة الحاسمة مع خونة الأممية القديمة، فضلا عن “مستنقع” زيمروالد، الذي كان أول تجمع للأمميين في عام 1915، والذي كان يتبنى إلى حد كبير مواقف غامضة من الناحية السياسية. كان زيمروالد مرتبطا بالوسطيين المتحلقين حول كاوتسكي، الذين كانوا “ماركسيين” بالكلمات والأقوال، لكنهم إصلاحيون في الممارسة الفعلية. لم يعد هناك وقت للمراوغة.“نحن الذين يجب أن نؤسس، الآن، ودون تأخير، أممية بروليتارية ثورية جديدة “[18].“… لقد حان الوقت لخلع القميص المتسخ وارتداء الثوب النظيف”[19].لم يكن هناك سوى عدد قليل جدا من “البلاشفة القدامى” ممن اقتنعوا بموقف لينين بشأن الثورة الجديدة. لقد تمسك الحرس القديم بالموقف التقليدي واستمروا يكررون ببساطة الحجج القديمة ضد موقف لينين. اعتقد المناشفة وغيرهم أنه فقد عقله. بل إن ستالين خرج علانية للدفاع عن الوحدة مع المناشفة، على الرغم من كل ما قاله لينين بشأن تلك المسألة.وبعد كونفرانس أبريل (24-29 أبريل، حسب التقويم القديم)، تمكن لينين من استخدام ثقله المعنوي لكسب الأغلبية، بدءا من القواعد، لموقفه الجديد الذي أعاد تسليح الحزب بمنظور السلطة للعمال. وكان ذلك التسليح حاسما جدا.رغم الإطاحة بالنظام القيصري، بقيت الجماهير تعاني البؤس والجوع على نطاق واسع، حيث تم تخفيض حصص الخبز بشكل مطرد. وأثار ارتفاع الأسعار موجة من الإضرابات والإغلاقات. أصبحت المظاهرات حدثا يوميا. واستولى الفلاحون المتعطشون للأرض على الأرض. وبسبب الأحداث المتلاحقة، بدأت التصدعات تظهر في صفوف الحكومة المؤقتة، التي كانت تحت الضغط من جميع الجهات.ومع تزايد خيبة الأمل إزاء موقف الحكومة من الحرب، تعرضت للضغوط من أجل التخلي عن جميع الأهداف الإمبريالية واضطرت إلى إبلاغ الحلفاء بذلك. لكن وزير الخارجية وزعيم حزب الديمقراطيين الدستوريين (الكاديت)، بافيل ميليوكوف، تراجع عن ذلك الوعد، وهو الشيء الذي أثار ضجة عندما تم الإعلان عنه.اندلعت مظاهرات عفوية. وظهرت لافتات تحمل شعارات “تسقط الحكومة المؤقتة!” و”يسقط ميليوكوف!”. وكان حجم الاحتجاجات الجماهيرية كبيرا إلى الحد الذي أجبر ميليوكوف على الاستقالة. ثم انضم إليه لاحقا وزير آخر هو غوتشكوف. وهو ما أدى إلى اندلاع أول أزمة حكومية.ونظرا للإحباط والغضب، كانت هناك قطاعات من العمال تريد الإطاحة بالحكومة المؤقتة على الفور. كان من الواضح أن ذلك ما يزال سابقا لأوانه، إذ كانت بقية البلاد متخلفة عن الركب، حيث كانت الحكومة ما تزال تتمتع باحتياطيات من الدعم. ونتيجة لذلك فقد حاول لينين توجيه الحزب فضلا عن تثقيف صفوفه ضد المغامرات. وبالتالي فقد اضطر إلى التدخل لكبح جماح تلك النزعات. قال:“إن شعار “تسقط الحكومة المؤقتة!” شعار غير صحيح في الوقت الحاضر، لأنه في غياب أغلبية صلبة (أي واعية ومنظمة) من الشعب إلى جانب البروليتاريا الثورية، فإن هذا الشعار إما أن يكون عبارة فارغة، أو أنه يرقى موضوعيا إلى محاولات ذات طابع مغامر”[20].كانت المهمة، من وجهة نظره، هي “شرح السياسات البلشفية بصبر” للجماهير وعدم الانخراط في أعمال يسارية متطرفة. ففي الوقت الذي كان فيه الحزب ما يزال أقلية صغيرة، كان بحاجة إلى مواصلة عمله الدعائي وتنظيم قواته بشكل منهجي. وكجزء من هذا العمل، كان لينين مؤيدا لتنظيم المظاهرات السلمية التي تتجنب العنف، كطريقة لاستعراض القوة، مع حث العمال على ممارسة الضغط على السوفييتات.كانت الحكومة المؤقتة متحالفة مع الإمبرياليين، نظرا لاعتمادها على القروض الأجنبية لمواصلة الحرب. ومع تولي كيرينسكي (عضو الحزب الاشتراكي الثوري) منصب وزير الحرب، سرعان ما وافقت الحكومة المؤقتة على القيام بهجوم عسكري جديد في يونيو، والذي كان محكوما عليه بالفشل. ولم يؤد ذلك إلا إلى تفاقم الأمور، وتقويض الدعم الذي كانت تمتلكه. وقد انعكس النفوذ المتزايد للبلشفية في اللافتات الكثيرة التي كانت تحمل شعار “كل السلطة للسوفييتات”، والتي كان يتم رفعها آنذاك في شوارع بتروغراد وأماكن أخرى.أدت أزمة حكومية جديدة إلى حدوث تعديل وزاري ضم المناشفة والاشتراكيين الثوريين إلى الأحزاب الرأسمالية في الحكومة الائتلافية الجديدة. عارض لينين تلك الخطوة بمهارة ودعا “الاشتراكيين المعتدلين” إلى الانفصال عن البرجوازية. وتم تلخيص هذه السياسة في الشعار البلشفي: “يسقط الوزراء الرأسماليون العشرة!”.كان زعماء المناشفة والاشتراكيين الثوريين يشعرون بأن الأرض تهتز تحت أقدامهم. لكن ومن خلال سيطرتهم على اللجنة التنفيذية للسوفييتات، تمكنوا من حظر مظاهرة كان البلاشفة قد دعوا إليها. وعندما دعت اللجنة التنفيذية إلى مظاهرة خاصة بها في 18 يونيو (1 يوليوز)، جاءت نتائجها عكسية وأصبح نفوذ البلاشفة واضحا للجميع. آنذاك كتب لينين قائلا: “بطريقة أو بأخرى، سيُسجل 18 يونيو باعتباره نقطة تحول في تاريخ الثورة الروسية”[21].كانت الثورة آنذاك تشهد تحولا طبقيا. امتلأت صفوف الحزب البلشفي بالمنخرطين الجدد. أصيب زعماء المناشفة والاشتراكيين الثوريين بالذعر، لكنهم كانوا مدعومين من طرف البرجوازية والقوى الإمبريالية. وفي أوائل يوليوز، أدت مظاهرة عفوية حاشدة إلى اندلاع أعمال عنف تسببت فيها عناصر مندسة. فتم شن حملة ضخمة من الافتراء ضد البلاشفة، متهمة إياهم بتدبير انتفاضة مسلحة. لقد حاول البلاشفة، في واقع الأمر، توجيه المظاهرة في مسارات سلمية لتجنب صدامات سابقة لأوانها. لينين، الذي كان يشعر بتوعك، غادر بتروغراد قبل تلك الأحداث، لكنه سارع بالعودة في الرابع (17) من يوليوز، حيث ألقى خطابا من شرفة قصر كيشينسكايا، وانتهى بنداء إلى “الحزم والثبات واليقظة”.ومع ذلك فقد ارتفع الصراخ والهتافات ضد لينين والحزب البلشفي. وشنت قوى الثورة المضادة هجوما لسحق الحركة. تم اتهام لينين بأنه عميل ألماني وأُرغم على الاختباء. أما البلاشفة، الذين اعتقل المئات منهم، فقد اضطروا إلى الاختباء فعليا. وفي مواجهة الافتراءات الفاضحة ضد البلاشفة، قال لينين:“لقد تلاشت إلى الأبد كل الآمال في إمكانية تطور سلمي للثورة الروسية. هذا هو الوضع الموضوعي: إما النصر الكامل للدكتاتورية العسكرية، أو النصر للانتفاضة المسلحة للعمال …”[22].ونظرا لحقيقة أن السوفييتات كانت قد صارت في يد منظمي حملات الاضطهاد والمتابعات، فقد صار لينين يرى أن شعار “كل السلطة للسوفييتات”، لم يعد مناسبا على الرغم من أنه كان ممكنا في أبريل ويونيو وأوائل يوليوز. لقد غيرت أيام يوليوز كل شيء ودلت على النصر المؤقت للثورة المضادة، بما في ذلك الخيانة المطلقة للاشتراكيين الثوريين والمناشفة.سرعان ما أصبح كيرينسكي رئيسا للوزراء، وأدى التعديل الحكومي إلى استقطاب أغلبية “الاشتراكيين المعتدلين” إلى الائتلاف، على الرغم من أن الكاديت الرأسماليين كانوا ما يزالون هم من يتخذون القرارات.كانت فترة من التغيرات السريعة والمنعطفات المفاجئة. وبحلول نهاية غشت، كانت البرجوازية الروسية تتطلع إلى إقامة دكتاتورية حقيقية -رجل قوي حقيقي- من شأنها أن تسقط “الديمقراطيين”. وقد تجسد ذلك في شخص كورنيلوف، الجنرال الذي قاد تمردا تعهد فيه بوضع حد لكل تلك الفوضى. وقد وصف لينين ذلك التحول في الأحداث بأنه “حاد بشكل لا يصدق”[23].وكتب إلى اللجنة المركزية في نهاية غشت، في خضم الأزمة قائلا:“من الممكن أن تأتي هذه الأسطر متأخرة للغاية، لأن الأحداث تتطور بسرعة تجعل المرء يصاب بالدوار في بعض الأحيان”[24].وفي مواجهة تمرد كورنيلوف، أكد لينين على أن الحزب يجب أن يتولى النضال ضد محاولة الانقلاب، لكن وفي الوقت نفسه يجب ألا يقدم أي دعم سياسي لحكومة كيرينسكي. وفي حين أن البلاشفة سوف يناضلون إلى جانب قوات كيرينسكي، فإنهم سوف يكشفون أيضا عن نقاط ضعف كيرينسكي وتذبذباته.“سيكون من الخطأ أن نتصور أننا ابتعدنا كثيرا عن مهمة استيلاء البروليتاريا على السلطة. كلا، لقد اقتربنا كثيرا من هذه المهمة، ليس بشكل مباشر، بل من الجانب. يتعين علينا في الوقت الحالي ألا نشن حملة مباشرة ضد كيرينسكي، بل يتعين علينا أن نشن حملة غير مباشرة ضده، أي من خلال المطالبة بشن حرب أكثر نشاطا وثورية حقا ضد كورنيلوف. […] يتعين علينا أن نكافح بلا هوادة العبارات التي تتحدث عن الدفاع عن البلد، وعن الجبهة المتحدة للديمقراطيين الثوريين، وعن دعم الحكومة المؤقتة، وما إلى ذلك، وما إلى ذلك، لأنها مجرد عبارات فارغة. يتعين علينا أن نقول: لقد حان الوقت للعمل؛ لقد أصبحتم أنتم السادة الاشتراكيون الثوريون والمناشفة متهالكين منذ زمن بعيد. والآن حان الوقت للعمل؛ يجب أن تخاض الحرب ضد كورنيلوف بطريقة ثورية، من خلال إشراك الجماهير، وإثارة حماستها، وتأجيجها (كيرينسكي يخاف من الجماهير، يخاف من الشعب)”[25].ويمكننا أن نرى هنا الطريقة التي من خلالها نجح لينين بمهارة في تحويل الموقف لصالح البلاشفة في قيادة النضال ضد كورنيلوف باستخدام الوسائل الثورية. وقد كان بتلك الطريقة يعلم الحزب فن التكتيكات المرنة. يجب أن نتذكر أن لينين كان ما يزال مختبئا في فنلندا. ومع ذلك فقد اضطرت حكومة كيرينسكي إلى الاعتماد على البلاشفة للحصول على الدعم، نظرا لنفوذهم المتزايد. بينما اغتنم البلاشفة بدورهم الفرصة لتسليح العمال وإحياء الحرس الأحمر، والميليشيات المنظمة في المصانع التي أنشأها العمال للدفاع عن الثورة.وفي النهاية، بعد تآخي البلاشفة وعمال بتروغراد مع قوات كورنيلوف، تلاشت قوات هذا الأخير. وبعد هزيمته، ظهر وضع جديد، حيث تراجعت سلطة كيرينسكي بسرعة. وعلاوة على ذلك فإنه خلال ذلك النضال، عادت السوفييتات إلى الحياة مرة أخرى، لذلك جدد لينين نداء: “كل السلطة للسوفييتات”، حيث طرح مرة أخرى فكرة التطور السلمي للثورة.وفي منتصف شتنبر، عرض لينين على المناشفة والاشتراكيين الثوريين “مساومة” مضمونها أن يقوموا بإنشاء حكومة مسؤولة بالكامل وحصريا أمام السوفييتات، تتولى أيضا السلطة محليا. وقال إن هذا من شأنه أن يضمن التطور السلمي للثورة.“الآن، الآن فقط، وربما خلال بضعة أيام أو أسبوع أو اسبوعين، يمكن إنشاء مثل هذه الحكومة وتعزيزها بطريقة سلمية تماما. ومن المرجح أن تضمن التقدم السلمي للثورة الروسية بأكملها، وتوفر فرصا جيدة بشكل استثنائي لخطوات كبيرة للحركة العالمية نحو السلام وانتصار الاشتراكية […].وأضاف: “أعتقد أن البلاشفة لن يقدموا أي شروط أخرى، على أمل أن تتقدم الثورة بطريقة سلمية وأن يتم الصراع الحزبي داخل السوفييتات بطريقة سلمية بفضل الحرية الكاملة للدعاية والتأسيس الفوري لديمقراطية جديدة في تشكيلة السوفييتات (انتخابات جديدة) وفي عملها.“ربما يكون هذا قد صار مستحيلا بالفعل؟ ربما. ولكن إذا كانت ما تزال هناك ولو فرصة واحدة في المائة، فإن محاولة تحقيق هذه الفرصة ما تزال تستحق العناء”[26].تدحض هذه السطور بشكل كامل الافتراء الكاذب الذي روج له المؤرخون البرجوازيون بأن لينين كان يؤيد العنف وسفك الدماء. فطيلة أغلب عام 1917 استمر لينين يدافع من موقع الأقلية عن “الدعاية السلمية”، التي تقوم على شعارات الخبز والأرض والسلام. إلا أنه وضع مسؤولية ضمان التطور السلمي للثورة على عاتق المناشفة والاشتراكيين الثوريين، الذين ينبغي لهم أن يستولوا على السلطة.لقد أدى فشل الحكومة المؤقتة في الوفاء بأي من وعودها إلى انهيار قاعدة دعمها. وكانت تجربة انقلاب كورنيلوف بمثابة رصاصة الرحمة في صدغها.أدت الانتخابات الجديدة للسوفييتات، وخاصة في بتروغراد وموسكو، إلى انتصار البلاشفة. وقد فتح ذلك فصلا حاسما جديدا في تاريخ الثورة. كتب لينين: “إن أغلبية الشعب في صفنا. والأغلبية المكتسبة في السوفييتات في المدن الكبرى كانت نتيجة لانضمام الناس إلى صفنا“[27]. فصار لزاما على السوفييتات آنذاك أن تستولي على السلطة. ولم يكن ذلك بمثابة ممارسة بلانكية أو استيلاء على السلطة من قبل أقلية. بل كان من شأنه أن يمثل انتصار الجماهير الثورية، التي بدأت آنذاك تتطلع إلى البلاشفة من أجل أن يقوموا بترجمة الكلمات إلى أفعال.حاول كيرينسكي إعادة تنظيم صفوفه بالإعلان عن عقد ما أسماه بالكونفرانس الديمقراطي، حيث تشارك جميع الأحزاب. عارض لينين المشاركة، وبدأ يوجه انتباه الحزب نحو الانتفاضة، لكن تم رفض اقتراحه. اعتبر المشاركة مجرد مضيعة للوقت، فقد كانت الثورة تنضج ولم يكن هناك وقت لتضيعه. لم يكن من الممكن اعتبار ثقة الجماهير أمرا مسلما به إلى الأبد.تروتسكي -الذي كان، بعد عودته إلى روسيا في ماي، يعمل بتعاون وثيق مع البلاشفة- انضم إلى الحزب في غشت وانتخب عضوا في لجنته المركزية. كان تعاونه مع لينين وثيقا للغاية وانتخب رئيسا لسوفييت بتروغراد. وقد أيد بشكل كامل معارضة لينين للمشاركة في الكونفرانس الديمقراطي. فكتب لينين:“لقد أيد تروتسكي المقاطعة. رائع أيها الرفيق تروتسكي!“كانت مقاطعة المؤتمر الديمقراطي قد هُزمت في المجموعة البلشفية.“عاشت المقاطعة!”[28].عندها سرعان ما حققا النصر، وقاد تروتسكي الانسحاب البلشفي من ذلك الكونفرانس.كان الوضع يزداد حرجا على المستويين السياسي والاقتصادي. ولم يكن من الممكن أن يستمر وضع ازدواجية السلطة في البلد: فإما أن تستولي السوفييتات على السلطة وتطيح بالحكومة المؤقتة، أو أن الثورة المضادة ستسحقها. كان كل شيء آنذاك على المحك، وقد أدرك لينين ذلك بوضوح تام.وباستخدام اللجنة العسكرية الثورية التي أنشأها سوفييت بتروغراد، بدأ تروتسكي في إقامة روابط مع حامية بتروغراد والاستعداد لانتفاضة أكتوبر. كان الاستيلاء على السلطة يعني أن شعار “كل السلطة للسوفييتات” سيصبح حقيقة بعد تسعة أشهر تقريبا.خلال شهري غشت وشتنبر، أثناء اختبائه في فنلندا، كتب لينين عمله النظري الشهير: “الدولة والثورة”، فضلا عن قيامه بالعمل على تركيز انتباه البلاشفة على مهمة حسم السلطة.لم نعمل على في هذا الكتاب على نشر ذلك المؤلف ومؤلف مهم آخر بعنوان: “الكارثة المحدقة وكيف نواجهها”، وذلك بسبب حجمهما الكبير. إلا أنهما متوفران ويمكن الحصول عليهما بسهولة. لقد صدر كتاب “الدولة والثورة” عن دار Books Wellred، كما تمت إعادة نشر “الكارثة المحدقة” على موقع الدفاع عن الماركسية (marxist.com)، وكلاهما من الكتب التي يجب قراءتها!وفي أواخر شتنبر كتب لينين: “إننا على أعتاب ثورة بروليتارية عالمية”، والتي ربط بها مصير الثورة الروسية الثانية[29].“لقد نضجت الأزمة. وأصبح مستقبل الثورة الروسية برمته على المحك. وأصبح شرف الحزب البلشفي محل تساؤل. وصار مستقبل الثورة العمالية العالمية من أجل الاشتراكية برمته على المحك”[30].ومع ذلك فإن لينين، الذي كان ما يزال مختبئا في فنلندا، كان يخشى أن تضيع فرصة الاستيلاء على السلطة. فقد رأى تيارا مترددا بين صفوف القيادة البلشفية. لم يكن يريد تأخير الانتفاضة حتى افتتاح مؤتمر السوفييت. ولذلك كتب رسالة صارمة إلى اللجنة المركزية وقيادات بتروغراد وموسكو يحثهم على اتخاذ إجراءات فورية. وقد دفعه تباطؤ اللجنة المركزية وحذف الانتقادات من مقالاته إلى تقديم استقالته من اللجنة المركزية لكي يتمكن من الحرية في القيام بحملات علنية داخل صفوف الحزب. لكن ونظرا لسرعة الأحداث فقد كان ذلك التهديد غير قابل للتنفيذ فعليا.ومع ذلك، فإنه عشية ثورة أكتوبر حدثت أزمة داخل القيادة البلشفية. ففي 10 (23) أكتوبر، خرج لينين، الذي كان ما يزال متنكرا، من مخبئه لحضور اجتماع اللجنة المركزية. كان في فنلندا منذ يوليوز. والآن أتيحت له الفرصة لمخاطبة القادة البلاشفة بشكل مباشر. قدم لينين تقريرا عن الوضع الحالي وحث على التنظيم الفوري للانتفاضة. تمت الموافقة على اقتراح لينين بأغلبية عشرة أصوات مقابل صوتين، لكن تاريخ الانتفاضة بقي معلقا.في اليوم الموالي، أصدر الاثنان اللذان صوتا ضد الانتفاضة، زينوفييف وكامينيف، بيانا معارضا لقرار اللجنة المركزية، تم توزيعه على القيادات الإقليمية والتنفيذية.وبعد أسبوع تقريبا، في السادس عشر (29) من أكتوبر، عُقد اجتماع موسع آخر للجنة المركزية، حيث كرر لينين مقترحه بالانتفاضة الفورية، لكن كان ما يزال هناك بعض التردد والتحفظات. ومرة أخرى، عبر زينوفييف وكامينيف عن معارضتهما. وبعد مناقشات ساخنة طويلة، طرح لينين قراره للتصويت، فحصل على أغلبية عشرين صوتا، وامتناع ثلاثة عن التصويت، وتصويت اثنين ضده.لكن، وفي 18 (31) من أكتوبر، خرج زينوفييف وكامينيف، في تمرد على الانضباط الحزبي، إلى العلن، وكتبا في صحيفة غير حزبية، “نوفايا جيزن”، حيث عبرا عن معارضتهما لقرار الانتفاضة. واقترحا، بدلا من ذلك، أن يقوم الحزب بتشكيل معارضة موسعة داخل الجمعية التأسيسية المستقبلية، وعدم خوض ما اعتبروه مغامرة.رد لينين على ذلك التصرف بغضب في رسالة إلى اللجنة المركزية في التاسع عشر من أكتوبر (1 نوفمبر) ندد فيها بهما باعتبارهما “كاسري إضراب” بفضحهما المشين لخطط الحزب أمام العدو[31]، ودعا إلى طردهما من الحزب.وفي اليوم الموالي، وبينما كان لينين غائبا ومختبئا في بتروغراد، اجتمعت اللجنة المركزية واستمعت إلى خطاب لينين لكنها رفضت طرد كاسري الإضراب، الذين تلقيا توبيخا بسيطا.بحلول ذلك الوقت، كان تروتسكي مشغولا بتنظيم الانتفاضة. كان مؤيدا للانتفاضة في موعد انعقاد مؤتمر سوفييتات عموم روسيا، لإضفاء شرعية أكبر على الثورة. وحتى في اليوم السابق للانتفاضة، كان لينين ما يزال يحث البلاشفة على الاستيلاء على السلطة، إذ كان يجهل بوضوح الاستعدادات المتقدمة التي كان تروتسكي يقوم بها. وقد كتب:“الحكومة تترنح. ولابد من توجيه الضربة القاضية لها بأي ثمن. إن تأخير هذا العمل خطأ قاتل”[32]. وفي النهاية، أثبتت تكتيكات تروتسكي صحتها. فقد تم تنفيذ الانتفاضة بسلاسة في 25 أكتوبر (7 نوفمبر) تحت قيادته للجنة العسكرية الثورية وباسم سوفييت بتروغراد.حتى ستالين اعترف بالدور الرئيسي الذي لعبه تروتسكي في الثورة، حيث كتب:“لقد تم تنفيذ كل أعمال التنظيم العملي للانتفاضة تحت القيادة المباشرة لرئيس سوفييت بتروغراد، تروتسكي. ومن الممكن أن نعلن على وجه اليقين أن الانتقال السريع للحامية إلى جانب السوفييت والتنفيذ الجريء لعمل اللجنة العسكرية الثورية، يعود الفضل فيه في المقام الأول وقبل كل شيء إلى الرفيق تروتسكي”[33].بعد الانتفاضة الناجحة، خرج لينين من مخبئه ليظهر في مؤتمر سوفييتات عموم روسيا حيث أُعلن النصر.ووفقا لجون ريد، الذي كان حاضرا آنذاك:“الآن، أمسك لينين بحافة المنصة، تاركا عينيه الصغيرتين تتجولان فوق الحشد بينما كان يقف هناك منتظرا، غير مدرك، على ما يبدو، للتصفيق الطويل الذي استمر لعدة دقائق”[34].وعندما هدأ التصفيق، قال لينين ببساطة:“سنشرع الآن في بناء النظام الاشتراكي”[35].وبصفته رئيسا للحكومة الجديدة، أعلن لينين سلسلة من المراسيم بشأن السلام دون الحاقات، ونشر جميع المعاهدات السرية، وإلغاء الملكية الخاصة للأرض وإعطائها للفلاحين، وإقرار حق الأمم في تقرير المصير، وغير ذلك. وفي غضون أربع وعشرين ساعة فقط بعد الاستيلاء على السلطة، أظهرت الحكومة السوفياتية الجديدة -مجلس مفوضي الشعب- عزمها على تنفيذ برنامجها.صار مؤتمر سوفييتات عموم روسيا أعلى سلطة في البلد. لقد مثل الضربة الأولى ضد الرأسمالية العالمية وشكل بداية الثورة الاشتراكية العالمية.لم يكن ذلك انقلابا خلف ظهر الجماهير، كما يدعي المؤرخون البرجوازيون. وفي هذا السياق كتب المنشفي اليساري سوخانوف:“إن وصفها [ثورة أكتوبر] بأنها مؤامرة عسكرية وليس انتفاضة وطنية أمر سخيف تماما لأن الحزب [البلشفي] كان قد صار بالفعل القوة الفعلية في البلد، ولأنه كان يتمتع بدعم الأغلبية الساحقة من الشعب”[36].تظهر كتابات لينين في تلك الفترة أفكار رجل مرتبط بالسيرورة الثورية، رجل كان يرى أبعد بكثير من العديد ممن كانوا حوله. لقد كان دوره حاسما، كما يمكن أن نرى من خلال هذه الكتابات، التي نوفرها الآن لجمهور أوسع.إن الثورة الاشتراكية سوف تعود إلى جدول الأعمال خلال الفترة المقبلة. وسوف تساعد كتابات لينين هذه التي كتبها في عام 1917 في إنارة الطريق نحو ثورة بروليتارية عالمية ناجحة.